أخر الاخبار

إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة

إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة

مقدمة:

إن مسألة تنفيذ الأحكام القضائية، هي من أهم القضايا المطروحة على مستوى التنظيم القضائي المغربي.
ومنذ البداية يمكن القول بأن مرحلة تنفيذ الأحكام القضائية، هي أسمى مرحلة في مسطرة إحقاق الحقوق. ومن ثم أمكن اعتبارها بمثابة المعيار الأساسي لتمييز ما يسمى بدولة القانون عن الدولة البيروقراطية التي تسمو فيها هيمنة القوة على القانون.

إن إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية، التي اكتسبت قوة الشيء المقضي به، هي من الإشكاليات التي نصادفها باستمرار، سواء تعلق الأمر بالقضايا التي تهم العلاقات التي تحكمها قواعد القانون الخاص، أو بالقضايا التي تهم العلاقات التي تنظمها قواعد القانون العام.

ومع ذلك، تنبغي الإشارة إلى أنه إذا كانت إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية تبدو عامة، فإن أهميتها تزداد أكثر فأكثر، عندما يتعلق الأمر بالأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة.

ومن المعلوم أن الإدارة تعتبر في كل الأحوال، معنية بالحكم موضوع التنفيذ، سواء بصفة مباشرة أو بصفة غير مباشرة. وذلك نظرا لكونها تشكل المحور الرئيسي في عملية تنفيذ الأحكام القضائية.

فما هو إذن موقع الإدارة من مسألة التنفيذ ؟ حيث سنعمل من خلال هذا المقال على معالجة الموضوع عبر محورين رئيسيين:
المحور الأول: نخصصه لضرورة خضوع الإدارة للأحكام القضائية.
المحور الثاني: نعالج من خلاله صعوبة إخضاع الإدارة للأحكام القضائية.

1- ضرورة خضوع الإدارة للأحكام القضائية

عندما تطرح فكرة خضوع الإدارة للأحكام القضائية، فإننا نعني بذلك أن الإدارة، باعتبارها محور التفاعلات داخل المجتمع، هي العنصر الأساسي في ضمان السير العادي لمختلف المرافق العامة، التي يعتبر مرفق العدل أحد أهم أصنافها.

فالإدارة هي التي تتوفر على الوسائل غير المألوفة في القانون العادي، وبالتالي فإن ضمان السير العادي للمرافق العامة، رهين بمدى مشروعية الطرق التي تتبعها في استعمال هذه الوسائل.

فإما أن يكون هذا الاستعمال قائما على أساس غير ديمقراطي يضرب بعرض الحائط المبادئ العامة والضوابط القانونية التي هي روح النظام الإداري السليم، وإما أن يكون هذا الاستعمال قائما على أساس ديمقراطي، حيث يسود احترام المبادئ والقانون، وكذا الإحساس بالمشاركة في تحقيق المصلحة العامة (1). هذه المشاركة التي تجد ترجمتها في احترام مبدأ المساواة.

ومن المعلوم أن قيام العنصر الثاني من هذين الفرضيتين، يترتب عليه احترام الإدارة لسيادة حكم القانون، وخضوعها لرقابة القضاء، مثلها في ذلك مثل الأفراد العاديين داخل المجتمع.

غير أن ما يمكن ملاحظته، هو أن قيام إدارة من هذا النمط، يقتضي أن تحترم هذه الأخيرة مجموعة من المبادئ الأساسية. وما دمنا نعالج إشكالية تنفيذ الإدارة للأحكام الصادرة ضدها، فإننا سنقتصر على طرح بعض المبادئ التي ترتبط مباشرة بهذه الإشكالية. ومن أهم هذه المبادئ، نتناول مبدأ احترام الإدارة للقانون، ثم مبدأ قوة الشيء المقضي به.

1- الإدارة والقانون.

من أهم المبادئ الأساسية، التي استقر عليها منظرو الفكر الديمقراطي، مبدأ سمو القانون، على أساس أن القانون هو " التعبير عن الإرادة العامة".

وهذا المبدأ قد أصبح يشكل ركيزة أساسية لكل الأنظمة الديمقراطية، حيث يعتبر عنصرا دستوريا تأخذ به جل الدساتير.

ويعتبر المغرب من الأنظمة السياسية التي تبنت هذا المبدأ، حيث نجد أن الفصل 4 من الدستور ينص على أن " القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ويجب على الجميع الامتثال له، وليس للقانون أثر رجعي".

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نشير إلى أن علاقة الإدارة بالقانون هي علاقة وطيدة جدا. وذلك نتيجة اعتبارين أساسيين: الاعتبار الأول ، ويرتبط بمبدأ فصل السلطات الذي لايحظى إلا بتطبيق مرن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. هذا التطبيق الذي يكون من نتائجه تمكين السلطة التنفيذية، التي هي الإدارة بمعنى أدق، من المساهمة مع السلطة التشريعية في وضع القانون. وهي المساهمة التي يمكن أن نلاحظها منذ بداية المسطرة التشريعية، عبر مجموعة من الآليات، تتمثل أساسا في حق الحكومة في اتخاذ المبادرة لوضع مشاريع قوانين، وكذلك في حقها لرفض كل اقتراح قانون لا يتوافق وتوجهاتها المرسومة في برنامجها، أما الاعتبار الثاني، فهو يرتبط بفكرة التحديد الحصري لمجال القانون، حسب الفصل 46 من الدستور المغربي، والذي يترتب عليه، اختصاص السلطة التنظيمية للتدخل في كل المجالات التي لا يتضمنها هذا الفصل.

وتأسيسا على هذا الطرح، يمكن القول بأن الإدارة، تشكل محورا أساسيا في عملية وضع القانون. الشيء الذي يقتضي القول بضرورة احترامها لمبدأ المشروعية، حيث تكون ملزمة، مثلها مثل الأفراد، بالخضوع لأحكام القانون، ما دامت أنها تعتبر فاعلا رئيسيا في وجوده.

وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم المشروعية، ينبغي أخذه هنا بمعناه الواسع، على حد تعبير الأستاذ جورج فوديل Vedel (G) . إذ أن هذا الأخير، يفترض أن مبدأ المشروعية لا يقتضي فقط احترام الإدارة للقانون بما في الكلمة من معنى، بل أيضا خضوعها للمبادئ التي يضعها القضاء.(2) وبعبارة أدق احترامها للأحكام القضائية والعمل على تنفيذها.


1- الإدارة وقوة الشيء المقضي به:

إن مبدأ قوة الشيء المقضي به، يعتبر من الناحية العملية تعبيرا صريحا لمبدأ الشرعية وامتدادا له. ويظهر ذلك عندما نلاحظ أنه بدون احترام القانون، لا يمكن الكلام عن احترام مبدأ قوة الشيء المقضي به، أي الأحكام الصادرة عن المحاكم.

وانطلاقا من هذا الطرح، يمكن القول بأن نفس الخصائص التي يحظى بها مبدأ المشروعية هي التي تطبق على مبدأ قوة الشيء المقضي به.

وهكذا فإذا كان القانون هو أسمى تعبير عن الإرادة العامة، فإن مبدأ قوة الشيء المقضي به، هو أسمى وسيلة لتطبيق هذه الإرادة. ومن ثم كان من الضروري أن يحظى باحترام الجميع.


إن مبدأ قوة الشيء المقضي به، هو مبدأ يرمز إلى العدل، ومادام أن العدل هو أساس الحكم في القانون العام الإسلامي، فإنه لا يمكن أن يعفي من الالتزامات التي يفرضها أي طرف من أطراف المجتمع، سواء في المجال السياسي أو في المجال المدني. مما يترتب عليه احترام الإدارة لهذا المبدأ، مثلها مثل الأفراد العاديين. إذ أن باحترامها لهذا المبدأ، فإنها تجعل نفسها تخضع للأحكام الصادرة ضدها، وبالتالي العمل على تنفيذها، مادام أن هذه الأحكام ليست إلا تطبيقا للقوانين التي ساهمت هي مسبقا في وضعها. بل الأكثر من ذلك، إن احترام مبدأ قوة الشيء المقضي به من طرف الإدارة، لا يقتصر فقط على ضرورة خضوع هذه الأخيرة للأحكام الصادرة ضدها، بل إنه يتعدى ذلك، إلى ضرورة تدخلها بهدف تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الأفراد فيما بينهم، نظرا لما تتوفر عليه من وسائل يحظر على الأفراد اللجوء إليها دون ترخيص من القانون، أهمها وسيلة استعمال القوة.


ومن المعلوم أن مبدأ قوة الشيء المقضي به هو من المبادئ العامة التي عمل الاجتهاد القضائي على تكريسها. ويتضح ذلك عندما نتصفح القرارات الصادرة عن القضاء الإداري، والذي يحاول من خلالها إلزام الإدارة بتنفيذ الأحكام الصادرة ضدها.

وهو ما نلاحظه من خلال موقف مجلس الدولة الفرنسي، الذي لا يتردد في التصريح بضرورة احترام الإدارة لمبدأ قوة الشيء المقضي به، حيث يذهب إلى حد استعمال عبارات صارمة ومتشددة، لجعل الإدارة تخضع للأحكام القضائية. وفي هذا المعنى نجده يقضي في أحد اجتهاداته بأنه في حالة عدم تنفيذ قرار صادر عن القضاء الإداري، فإن مجلس الدولة بإمكانه إكراه الإدارة على ضمان تنفيذ هذا القرار. وهو ما نستنتجه من الحيثية التالية:" ...حيث إنه في تاريخ هذا القرار، فإن المجلس البلدي لا يتخذ الإجراءات الضرورية لضمان تنفيذ الحكم الصادر بتاريخ 1 فبراير 1977، مما يترتب عليه، واعتبارا لكل ظروف القضية، الحكم على الجماعة، في حالة عدم قيامها بهذا التنفيذ خلال أجل شهرين ابتداء من تاريخ تبليغ هذا القرار، بغرامة (astreinte) قدرها 200 فرنك في اليوم إلى حين تنفيذها للحكم المشار إليه أعلاه(3).

ونفس الاتجاه سار عليه الاجتهاد القضائي المغربي، وإن لم يكن بنفس الصرامة، إذ نجد أن المجلس الأعلى، من خلال مجموعة من القرارات يؤكد على العلاقة القائمة بين مبدأ المشروعية ومبدأ قوة الشيء المقضي به. وذلك كيفما كانت مناسبة هذه العلاقة، سواء في إطار الأحكام الصادرة ضد الإدارة، أو في إطار الأحكام الصادرة ضد الأفراد فيما بينهم. وهو ما نقرأه من إحدى الحيثيات الواردة في قرار صادر عن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى، والتي تقضي ".... حيث إن تجاهل السلطات الإدارية للأحكام النافذة المفعول والمذيلة بصيغة التنفيذ يشكل، ما عدا في ظروف استثنائية، شططا في استعمال السلطة، لخرقه القواعد الأساسية للتنظيم والإجراءات القضائية التي باحترامها يحترم النظام العام...(4).

نستنتج إذن أن ضرورة خضوع الإدارة للأحكام الصادرة ضدها، تجد أساسها في التشريع والاجتهاد القضائي. إلا أنه ينبغي التذكير بأنه على مستوى التنفيذ، فإن هذا الخضوع يفقد لكل فعاليته، وهو ما نطرحه من خلال المحور الثاني.


2- صعوبة إخضاع الإدارة للأحكام القضائية:

إذا كان خضوع الإدارة للأحكام القضائية، هو من الضروريات التي يفرضها منطق القانون، وتقتضيها مستلزمات دولة القانون، فإن ما يمكن ملاحظته، هو أن الإدارة لازالت في أغلب الأحيان، تبدي كثيرا من المقاومة في مواجهة الأحكام الصادرة ضدها، إذ هي لا تتوانى في رفض الانصياع للأحكام القضائية، رغم اكتسابها لقوة الشيء المقضي به.

مما يترتب عليه صعوبة إخضاع الإدارة للأحكام القضائية، وهي الصعوبة التي تكمن وراءها مجموعة من العوامل، يمكن أن نحددها بصفة خاصة في ثلاثة رئيسية: التأويل لمبدأ فصل السلطات، ثم التوظيف الخاطئ لفكرة الامتيازات، وأخيرا غياب عنصر الجزاء تجاه الإدارة.


1- التأويل الضيق لمبدأ فصل السلطات:

إن مبدأ فصل السلطات الإدارية والقضائية، يجد أصله في قانون 16-24 غشت 1790 بفرنسا، والذي بمقتضاه يمنع على القضاة، بأي وجه من الوجوه، أن يقوموا بعرقلة أعمال الهيئات الإدارية أو أن يستدعوا رجال الإدارة للمثول أمامهم بحكم أدائهم لوظائفهم.

ولعل هذا القانون يشكل رد فعل ضد الواقع الذي كان يسود في النظام القديم بفرنسا، والذي كان يتسم بالتدخلات التعسفية للمحاكم (البرلمانات والمحاكم المرتبطة بها ) في شؤون الإدارة(5) وقد كان يهدف إلى تجريد المحاكم العادية من الاختصاص للبت في المنازعات التي تكون الإدارة طرفا فيها، وليس عدم إخضاع هذه المنازعات للمراقبة القضائية. إذ أن هذه المنازعات سيصبح البت فيها، ابتداء من هذا القانون، من اختصاص المحاكم الإدارية.


وقد عرف هذا القانون، على مستوى التطبيق، تطورا مهما أدى إلى أن يشكل أساسا لنظام ازدواجية القضاء والقانون في النظام القضائي الفرنسي، يدل على ذلك الدور الذي لعبه مجلس الدولة الفرنسي في مجال بناء قواعد القانون الإداري، حيث إنه استطاع أن يفرض نفسه كهيئة قضائية فاعلة، رغم أصله الذي هو ذو طابع إداري.

غير أنه عندما نتناول هذا المبدأ في النظام القضائي المغربي، نجد أنه قد أعطى فهما مغايرا تماما لما هو عليه الأمر في فرنسا.

فهذا المبدأ الذي تم التنصيص عليه في الفصل 25 من قانون المسطرة المدنية(6) قد تم تأويله من طرف الإدارة بشكل جعلها لا تعير اهتماما، إلا لجانب منع المحاكم من التدخل للنظر " في الطلبات التي من شأنها أن تعرقل عمل الإدارات العمومية للدولة، أو الجماعات العمومية الأخرى...."، ضاربة عرض الحائط الجوانب الأخرى من هذا الفصل التي تستبعد خضوع الإدارة للمراقبة القضائية، حيث تكون ملزمة باحترام الأحكام الصادرة عن القضاء.

فالأمر يتعلق إذن بتأويل ضيق لمقتضيات القانون، وهو التأويل الذي ظلت تعتمده الإدارة في مواجهتها للأحكام القضائية الصادرة ضدها. وقد ترتب عن هذا التأويل سلوك ما فتئت الإدارة تتمظهر من خلاله، تارة بالتماطل، وتارة بالتعنت تجاه مسألة تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها. ولعل في هذا السلوك أول مظهر من مظاهر صعوبة إخضاع الإدارة للأحكام القضائية الصادرة ضدها.


2- التوظيف الخاطئ لفكرة الامتيازات:

من بين الصعوبات التي يمكن مصادفتها عند محاولة تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة، تنبغي الإشارة إلى تلك التي يمليها نظام الامتيازات التي تتوفر عليها الإدارة باعتبارها سلطة عمومية.

فهذه الامتيازات، التي هي مجموع الوسائل غير المألوفة في القانون العادي، تجعل الإدارة تتمنع ضد الأحكام الصادرة ضدها، ولا تتوانى في تقديمها كمبرر أساسي لهذا الامتناع.

فالإدارة غالبا ما تلجأ إلى إعطاء تأويل خاطئ لهذه الامتيازات يؤدي في آخر المطاف إلى وضع العراقل أمام تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها.

ويمكن أن نستدل على هذا التعنت الذي تبديه الإدارة تجاه الأحكام الصادرة ضدها، من خلال أحد الأحكام القضائية. ويتعلق الأمر بالأمر الاستعجالي رقم 1206 الصادر عن المحكمة الابتدائية بالرباط بتاريخ 16 دجنبر 1985. ومحتوى هذا الأمر هو :" أن الشركة الفلاحية كوماكري، الشركة المغربية لإدارة الأراضي الفلاحية، تقدمت بمقال استعجالي تعرض فيه أنه صدر لفائدة السيد بونان هنري حكم بتاريخ 19/5/1968 يقضي له بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به بسبب طرده من ضيعة أولاد كناو، وقد انتقلت هذه الضيعة لوزارة الداخلية بتاريخ 4/10/1971، ونظرا لأن الشركة المغربية لإدارة الأراضي الفلاحية هي شركة للدولة....لذلك تلتمس التصريح بذلك والقول بإيقاف التنفيذ"(7).


غير أن المحكمة الابتدائية قد اتخذت موقفا مغايرا لما جاء في ادعاءات الشركة المدعية، معتبرة أن هذه الادعاءات لا تقوم على أي أساس قانوني.إذ صرحت بأنه لا يوجد أي نص يستثني الدولة من تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها، بل إن مبدأ المشروعية - يجعل تصرفات الدولة - خاضعة لمراقبة القانون، وملزمة بتنفيذ القرارات والأحكام الصادرة ضدها. مما دفعها إلى رفض الطلب.

ومع ذلك ينبغي التنبيه أنه إذا كان الاجتهاد القضائي قد يتخذ مواقف صارمة تجاه ادعاءات الإدارة الرامية إلى التمنع عن تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، فإن هذه المواقف تظل بدون جدوى نظرا لانعدام الوسائل الكفيلة لإجبار الإدارة على الخضوع لهذه الأحكام.


3- غياب عنصر الجزاء

إن الصعوبات السالفة الذكر، تتعزز أكثر فأكثر، عندما تغيب فكرة الجزاء ضد الإدارة في حالة عدم التزامها بالأحكام الصادرة ضدها، ذلك أن ما أشرنا إليه من ضرورة خضوع الإدارة للأحكام القضائية، سواء على مستوى التشريع، أو على مستوى الاجتهاد الفضائي، يبقى من باب المنطق القانوني الذي تتسع الهوة بينه وبين الواقع.

فعلى مستوى التشريع، يمكن القول بأنه في حالة تعنت الإدارة، ليست هناك أية إمكانية لإنزال الجزاء عليها، بهدف إرغامها على تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها.

نعم هناك بعض الصيغ التنفيذية، التي يتضمنها القانون، مثل الفقرة الثانية من الفصل 433 من قانون المسطرة المدنية التي تنص: " ....يأمر جلالة الملك جميع الأعوان، ويطلب منهم أن ينفذوا الحكم المذكور (أو القرار) كما يأمر الوكلاء العاملين للملك ووكلاء الملك لدى مختلف المحاكم، أن يمدوا يد المعونة لجميع قواد وضباط القوة العمومية، وأن يشدوا أزرهم عندما يطلب منهم ذلك قانونيا..".

إن هذه الصيغة التنفيذية تعتبر عامة ومجردة، حيث إنه ينبغي تطبيقها على كل أطراف الدعوى بدون استثناء. لكن التساؤل الذي ينبغي أن نطرحه، هو كيف يمكن تطبيقها على الإدارة في حالة رفضها تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها؟إن الجواب على هذا السؤال يقتضي القول بأنه ليست هناك أية وسيلة مباشرة أو غير مباشرة، لإرغام الإدارة على ذلك. ويرجع ذلك لسببين رئيسيين:

السبب الأول:
وهو أن الإدارة تعتبر دائما أن هذه الصيغة التنفيذية لا تعنيها نظرا لموقعها كسلطة عمومية.

أما السبب الثاني:
فهو أن رفض الانصياع إلى الأحكام القضائية يقتضي اللجوء إلى القوة العمومية، لكن القوة العمومية هي في يد الإدارة، فكيف يمكن إذن تصور استعمال ما تملكه من وسائل ضدها؟ فاحتكار القوة من طرف الإدارة، يجعلها تتمنع ضد أي إكراه يفرض عليها الخضوع للأحكام القضائية الصادرة ضدها، ومن ثم بقاء هذه الأحكام دون جدوى.

أما على مستوى الاجتهاد القضائي، فإن ما يمكن ملاحظته، هو أنه رغم المجهودات التي يبدلها القضاء في مجال فرض احترام المشروعية، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، فإن هذا الأخير، لا يملك الوسائل، لإجبار الإدارة على الخضوع إلى الأحكام الصادرة ضدها، حيث إن مهمته تقف عند حد التصريح بعدم مشروعية السلوك السلبي الصادر عن الإدارة، تجاه الأحكام القضائية التي اكتسبت قوة الشيء المقضي به.

الخاتمـة:
نخلص مما سبق إلى أن إشكالية تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة، تظل من القضايا المطروحة، إلى حد أمكن معه القول، بأنها أحد مظاهر النقص، الذي لازالت تعاني منه الإدارة المغربية.

فبحكم غياب تشريع واضح في هذا المجال، وبحكم الوضعية الممتازة التي لازالت تنفرد بها الإدارة، فإن مسألة تنفيذ الأحكام الصادرة ضد هذه الأخيرة، تظل رهينة بمدى حسن نيتها في احترام المشروعية، التي هي أساس مبدأ قوة الشيء المقضي به.

غير أن حسن النية، باعتباره مكونا أساسيا لتخليق النشاط الإداري، يقتضي بالضرورة طرح عنصر الإرادة السياسية. ومعنى ذلك أنه ينبغي أن نتساءل في ما إذا كانت هناك بالفعل رغبة في حل هذه الإشكالية أم لا؟ وبالطبع فإن توفر عنصر الإرادة السياسية، معناه الرغبة في التفكير في تغيير العقليات. مما يفترض للانكباب على الجوانب التي تهم المجال الإداري، وخصوصا الجانب التشريعي منها. ولعل أهم نقطة تهم هذا الباب، ينبغي التنبيه إلى جانب المسؤولية الإدارية. إذ هنا تكمن مكامن الخلل، خصوصا عندما نستحضر الفصلين 79و80 من قانون الالتزامات والعقود.

وهذان الفصلان يطرحان مسؤولية الإدارة عبر المزج بين الخطئين، الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي. مما يجعل الموظف المسؤول عن الأخطاء التي يرتكبها شخصيا أثناء قيامه بمهامه الإدارية يعفى من المسؤولية، حيث إن الدولة هي التي تحل محله.

وهكذا فعندما يتعلق الأمر بتنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة،فإن الموظف المسؤول الذي يكون وراء فعل التماطل أو عدم التنفيذ، لا يخضع لأية مسؤولية، بحكم مقتضيات الفصلين 79 و 80 من قانون الالتزامات والعقود.

وعليه، يمكن القول بأن هذين الفصلين ينبغي إعادة النظر فيهما، وذلك بالعمل على طرح فكرة مساءلة الموظف بصفة شخصية، خصوصا، عندما يتعلق الأمر بالأفعال التي يكون مؤداها تعطيل تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بتوافر الإرادة السياسية الصارمة، الأمر الذي يقتضي البدء من البداية.
_____________________________

المراجع المعتمدة في البحث:
1 سليمان محمد الطماوي : مبادئ علم الإدارة العامة، دار الفكر العربي، الطبعة7 مطبعة جامعة عين شمس ـ 1987،ص:21 .
2-Vedel (G) : Droit administratif, 6éme édition, P.U.F 1976, p :2672
3 (3) - C.E. 17 Mai 1985 Mme Menneret, les grands Armets p: 7013
4 - القرار رقم 6 الصادر في 10 ذي القعدة 1388 موافق 29 يناير 1969، عدد 28178. مجموعة قرارات المجلس الأعلى، الغرفة الإدارية 1966-1970، الطبعة الأولى يناير 1983، ص:173.
5 - Fayolle (M) : La force exécutoire des décisions de la justice à l'encontre des administrations publiques, thèse de doctorat, Nancy 1926, p : 9

6 - الفصل 25 من ق م م :" يمنع على المحاكم عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة أن تنظر ولو بصفة تبعية في جميع الطلبات التي من شأنها أن تعرقل عمل الإدارات العمومية للدولة أو الجماعات العمومية الأخرى، أو أن تلعب إحدى قراراتها...".
7 - المجلة المغربية للقانون، عدد 4، شتنبر - أكتوبر 1986، ص:243

الأستاذ محمد كرامـي
أستاذ التعليم العالي  بجامعة الحسن الثاني سابقا
محام بهيئة الدار البيضاء حاليا.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-