أخر الاخبار

واقع العملية التواصلية داخل الإدارة المغربية وعلاقتها بأساليب التدبير؟


واقع العملية التواصلية داخل الإدارة المغربية وعلاقتها بأساليب التدبير

تعمل الدولة على تحقيق حاجات المواطن وإشباع رغباته، و تتبع في ذلك مجموعة من الأساليب التدبيرية التي غالبا ما يكون لها تأثير كبير على العملية التواصلية الخارجية، وذلك نتيجة مجموعة من المظاهر، من قبيل التضخم البيروقراطي والمركزية المفرطة. هذه المعيقات التنموية جعلت المغرب يغير نظرته للإدارة في إطار ما يصطلح عليه بالتصور الجديد للتدبير الإداري.

أ. التضخم البيروقراطي والمركزية المفرطة
اختلفت التعاريف التي أعطيت للبيروقراطية حسب الزاوية التي يراها منها كل مهتم بالشأن الإداري. إذ هناك من ينظر إليها على أنها خاصية من خاصيات الإدارة المثالية، أمثال ماكس فيير الذي يعرفها أنها ذلك التنظيم الضخم المتواجد في المجتمع السياسي المعقد والمتحضر لتحقيق الأهداف القومية، و لإخراج السياسة العامة إلى حيز الواقع ووضعها موضع التنفيذ. فهي إذا في نظره تنظيم يرمي إلى تحقيق الأهداف بفاعلية ودقة، وهناك من يربطها بمفهوم الروتين والبطء، وبأنها تفقد الخلق وتؤدي إلى تردي الروح المعنوية، حيث يعامل الرؤساء مرؤوسيهم بعجرفة وغطرسة يقابلها المرؤوس بالذل والخضوع.
ويرى ميرتون أن التنظيم البيروقراطي يمارس ضغطا على المرء ويجعله أكثر انضباطا ومتبعا لمنهج معين، وبالتالي فإذا ما أريد للجهاز أن يمارس نشاطه بنجاح، فينبغي أن يحقق درجة عالية من السلوك الثابت ودرجة غير عادية من الالتزام تحت نظام من الرقابة الهادفة يتألف من مجموعة من القواعد التي تحدد مهام كل فرد في التنظيم. إلا أن هذه القواعد قليلا ما تنجح في ضبط التنظيم وتوحيد النشاطات نحو أهدافها المحددة، لأن للإفراد أهدافا ذاتية لا تتفق بالضرورة مع أهداف التنظيم، بل يمكن القول إن أهداف التنظيم تعتبر وسيلة من خلالها يسعى الأفراد لتحقيق أغراضهم الشخصية. وبهذا فان البيروقراطية - كمظهر تمتاز به الأجهزة المكلفة بتسيير شؤون الأفراد- تشكل معانات يومية للمواطن، الذي يصعب عليه اختراق البيانات في ظل تعقد المساطر وتعدد الوجوه والوظائف. وعليه فان النظام البيروقراطي مناقض للنظام العقلاني، عكس ما أصر عليه ماكس فيير، الذي اعتبره النظام الفعال. وقد أصبح علماء الاجتماع اليوم مجمعين على أن المشكلة التي يواجهها النظام البيروقراطي هي أزمة التواصل والتنظيم اللذان يجعلان الإدارة منغلقة حول نفسها. الشيء الذي يجعلها خارج السياق الاجتماعي وينفر المواطن منها ويتسبب في عرقلة عملية التواصل بينهما، ويحبط عزيمة المستثمرين.

يلاحظ أن النظام الإداري المغربي الحالي يتميز باحتكاره مركزيا لأهم الاختصاصات، إلى جانب السلطة التقريرية و كذا الوسائل والموارد البشرية. وتعتبر المركزية الطريقة المهيمنة في تدبير الإدارة والمرافق العمومية في العديد من الدول، خصوصا النامية منها، مما قد يجعلها تخضع لمركزية مفرطة كأسلوب تدبير تقليدي يشكل ثقلا كبيرا لم يعد مقبولا من طرف الأفراد. فإذا كانت هذه المركزية تشكل في وقت سابق ضرورة أساسية وحصانة لوحدة الدولة واستمراريتها، فإنه لم يبق لها مبرر اليوم، ولم تعد تستجيب لحاجيات المواطنين. ذلك أن انتشار المركزية المفرطة في المرافق العامة يؤدي إلى فقدانها لمصداقيتها، مما قد يؤدي إلى تفاوت يدفع إلى طلاق بين الإدارة والأفراد، وذلك نتيجة نقص معلومات متخذي القرار على المستوى المركزي. هذه المعلومات غالبا ما تكون بعيدة عن الحقيقة ولا تعطي نظرة كاملة عن واقع الأفراد. وقد تبرز المركزية في شكل تجميع لسلطة اتخاذ القرار بين وزارات معينة أو على المستوى الداخلي لكل وزارة، أو بين السلطة المركزية والجماعات المحلية.

كما أن اللاتركيز لم يرق إلى الدور المنوط به، إذ أن المصالح الجهوية والإقليمية وكذا المصالح الخارجية ليست في مستوى يجعلها تستجيب لتطلعات الجماعات المحلية بهدف تحقيق شراكة حقيقية في مجال التنمية المحلية، كما أن دور هذه المصالح لم يرق بعد إلى تلبية مختلف حاجيات المواطنين فيما يخص الخدمات المقدمة لهم. كما يلاحظ أيضا أن المصالح الخارجية تتواجد على العموم على مستوى المقر الرئيسي للعمالة أو الإقليم، ولا تتوفر في أغلب الحالات على ملحقات تابعة لها على صعيد باقي الإقليم أو العمالة، الشيء الذي يترتب عنه بعد الإدارة عن السكان، سيما في الحالة التي يشمل فيها نطاق المصالح الخارجية أكثر من عمالتين. وحتى في الحالة التي تكون فيها هذه المصالح الخارجية قريبة من المرتفق فإن دورها يبقى ضعيفا، إذ غالبا ما يقتصر على تنفيذ القرارات التي تتخذ مركزيا؛ هذه القرارات بدورها قد لا تكون لها صلة بواقع المواطنين وحاجياتهم الحقيقية والمستعجلة.

إن نظام اللامركزية واللاتمركز الذي تنهجه الدولة المغربية مازال يشوبه العديد من الاختلالات، سواء من ناحية الاختصاصات أو من جانب الآليات الأساسية، مما يؤدي إلى بطء اتخاذ القرار، وإضاعة مصالح المواطنين، وهجرة المستثمرين، وابتعاد الإدارة عن المواطنين وقطع حبال الاتصال والتواصل معهم. إن هذه الوضعية السلبية جعلت القائمين على أمور الدولة يبادرون إلى إصلاح هذه الأعطاب التي تعاني منها الإدارة، ضمن منظورجديد للتدبير الإداري، يقوم على مفهوم جديد للسلطة.

ب. التصور الجديد للتدبير الإداري
يمزج التصور الجديد للتدبير الإداري بين تصورين، أحدهما وليد اجتهاد سياسي داخلي (المفهوم الجديد للسلطة) وآخر وليد تيار ليبرالي جديد (التدبير الإداري الجديد).
لقد أعلن الملك محمد السادس عن الخطوط العريضة للمفهوم الجديد للسلطة في خطابه الذي ألقاه يوم 12 أكتوبر 1999 أمام ممثلي الجهات والولايات والعمالات والأقاليم بالمملكة، حيث جاء فيه: "مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة الحقوق وأداء الواجبات وإتاحة الظروف اللازمة لذلك، على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون، في ضوء الاختيارات التي نسير على هديها من ملكية دستورية وتعددية حزبية وليبرالية اقتصادية وواجبات اجتماعية، بما كرسه الدستور وبلورته الممارسة". لذلك، ومن خلال هذا الخطاب عملت الدولة على إعادة الثقة للمواطن بإدارته التي ظلت لعقود من الزمن بعيدة عن انشغالات وهموم الناس، إذ يعزى هذا إلى نموذج التنظيم نفسه، ذلك أن الاتجاهات التقليدية الموروثة، وأشكال التواصل الإداري القديم فرضت نوعا من العلاقات بين الإدارة والمواطنين مطبوعة بالتشدد والإكراه والخضوع لسلطة الإدارة التي تفرض عليهم بالتبعية منطقها واختياراتها، وتحدد بطريقة أحادية الجانب أشكال الحوار والتواصل. وبالتالي يمكن القول أن المفهوم الجديد للسلطة وما يرتبط بها مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية والحريات الفردية والجماعية، وعلى السهر على الأمن والاستقرار وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي. وهي مسؤولية لا يمكن النهوض بها داخل المكاتب الإدارية، التي يجب أن تكون مفتوحة في وجه المواطنين، ولكن تتطلب احتكاكا مباشرا بهم وملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان، وإشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة.

وعلى إثر هذا المفهوم الجديد للتدبير العمومي، الذي يركز على فكرة أساسية مفادها تسيير الإدارة العمومية بأدوات ووسائل القطاع الخاص، مع ما يعنيه هذا من تحول للإدارة العمومية نحو البحث عن المردودية وإرساء علاقات تجارية وتعاقدية مع المواطن الذي سينقل من مهنة مرتفق إلى صفة زبون ومستهلك للخدمات العمومية. ففي الحالتين معا، تتميز العلاقة بين الإدارة والمواطنين، بنوع من الصراع وانعدام الثقة، لذا فالإدارة العمومية بصفة عامة مدعوة إلى الاقتراب من المرتفقين وملامسة مشاكلهم وإشراكهم في إيجاد الحلول والقرارات الملائمة لوضعيتهم المختلفة.

وتعد المقاربة التشاركية أحد أهم عوامل التحولات الاجتماعية، لأنها أساس التنمية البشرية التي تضع المواطنين في مركز الاهتمام، بغض النظر عن تمايزاتهم الجنسية والعمرية والطبقية. إن إدماج المقاربة التشاركية في السياسة التنموية تعتبر منهجية عمل تساعد على التنمية العادلة، وذلك من خلال إشراك الجميع في تسيير مؤسسات الدولة، وفي جميع مراحل تدبير مشاريع وبرامج التنمية والإصلاح، من التشخيص والتحليل والتخطيط والتنفيذ إلى التتبع والتقويم. هذه المقاربة هي وسيلة تسمح بالإنصات إلى أصوات الجماعات الضعيفة، والمهمشة (النساء، الفقراء، المعوقين، الأطفال، القرويين والشباب العاطل)، وتمنحهم الفرصة للتعبير بحرية وصراحة.

وإذا ما أردنا التعمق أكثر فإن مصطلح التشاركية يحيلنا في مستواه اللغوي إلى وزن "التفاعلية"، فوزن التفاعلية هذا ذو دلالة علائقية إيجابية، بحيث إن الفعل فيه متبادل بين أطراف معادلة المشاركة، وبالتالي فإن أطراف الفعل التشاركي من الناحية النظرية على الأقل تحكمهم نوع من النِّدِّيَةِ في الرأي وفي اتخاذ القرار. أما على المستوى الداخلي فإن معادلة التشاركية تبقى محكومة بطبيعة القانون الداخلي لكل طرف من أطراف المعادلة. وهي في النتيجة محكومة بمدى فعالية وقوة كل طرف في التفاعل وتحقيق التوازن داخل المعادلة التشاركية. وقد أشار الخطاب الملكي المرجعي للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي 2005 إلى مفهوم المقاربة التشاركية حينما قال: "إنها تجارب تؤكد نجاعة الأساليب التي تستهدف التحديد الدقيق للمناطق والفئات الأكثر خصاصة، وأهمية السكان ونجاعة المقاربات التعاقدية". إن المقاربة التشاركية هي طريقة تتوخى تدعيم الجماعات في أفق امتلاك سلطة على مستقبلهم. ونتيجة لذلك فإن استخدام المقاربة التشاركية يلعب دور التنشيط الاجتماعي والتشخيص والتنسيق والتكوين والتحسيس والتعبئة والمسؤولية والتوعية. ذلك أن الأساليب تتمحور حول مشاركة الساكنة، ليس فقط من أجل اتخاذ القرار، ولكن كذلك في مسلسل الإعداد لاتخاذ القرار، فهي تفيد عملية تواصل أفقية مع السكان بطريقة تضمن مشاركتهم في مسلسل اتخاذ القرار عبر آليات الإنصات المستمر بهدف تحسين وضعيتهم المجتمعية. لذلك فإن مصطلح المشاركة هو مفتاح نجاح كل المسيرات التنموية التشاركية.
في الأخير يمكن اعتبار المقاربة التشاركية في مفهومها العام أنها تشمل المناهج التي تجعل الجماعات فعالة، مثيرة بذلك مكتسبات التصور والفهم والإحساس لحيازة المشاريع التنموية المؤدية إلى التغيرات الدائمة. وإن هذه المناهج متوجهة نحو الأشخاص لتحقيق المزيد من احترام الكرامة الإنسانية وتحسين شروط الحياة اللائقة.

..



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-