أخر الاخبار

السياسات الجنائية والأمنية... أية علاقة؟

السياسات الجنائية والأمنية... أية علاقة؟

تتلخص الغاية المثلى لكل سياسة جنائية في خلق الطمأنينة لساكنة معينة، وبالتالي إنتاج الأمن داخل هذه المجموعة. بالمقابل، نجد أن الأساس في خلق جهاز للشرطة هو تنفيذ تصورات تهدف إلى بتر كل المخاطر التي تهدد النظام الاجتماعي وأمن السكان في حياتهم وفي ممتلكاتهم. من خلال مزج أهداف وغايات السياستين وبالرغم من اختلاف مشاربهما فإنهما يتزاوجان. كيف ذلك؟

تعتبر السياسة الجنائية مجموع التدابير التي يمكن اقتراحها على المشرع أو التي يتبناها القانون في مرحلة معينة وفي موقع جغرافي معين من أجل مواجهة الإجرام؛ لكن هذا التعريف ليس شاملا وذلك راجع لسببين: أولهما تمازج مفهومين متباعدين هما "السياسة" التي هي مجال يدخل ضمن نشاط الجهاز التنفيذي، و"الجنائية" التي هي من اختصاص القضاء؛ وثانيهما أن السياسة الجنائية تنشط في مستويين متناقضين هما المستوى التشريعي والمستوى التطبيقي.

المقصود بالسياسة الجنائية في المغرب.

بالرجوع إلى المقتضيات التشريعية ذات الصلة، نلاحظ أن السياسة الجنائية قد وردت عرضا في المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية التي تفيد على أن وزير العدل يشرف على تنفيذ السياسة الجنائية.

فبصفته رئيسا للنيابة العامة، يقوم وزير العدل بتبليغ مضمون هذه السياسة الجنائية إلى الوكلاء العامين الذين يسهرون على تطبيقها في مجموع نفوذ محكمة الاستئناف التي ينتمون إليها. لكن يجب الإشارة إلى أن المشرع المغرب ف المادة 51 من قانون المسطرة يتعاطى بتحفظ وغموض صارخين مع سياسة يرسمها الجهاز التنفيذ ويمليها على الجهاز القضائي من دون تقديم توضيح في القانون نفسه أو في نص آخر المعالم القانونية لهذه السياسة والجهات المكلفة بوضعها. ففي غياب تعريف وتوضيح قانونيين لا بد من تخصيص قراءة خاصة للنصوص القانونية، وتأمل عميق في الواقع لأن الممارسة القضائية هي، في آخر المطاف، منتوج السياسة الجنائية.

بناء على التعريف المقدم سابقا، وفي غياب تعريف قانوني للسياسة الجنائية يمكن استنباط ملامح السياسة الجنائية المغربية من خلال المنظومة القانونية والممارسة القضائية الوطنيتين. في هذا الصدد، ندعو لقراءة عميقة لمقتضيات الفصل الأول من القانون الجنائي الذي غالبا ما يصنفه الفقه بأنه يقدم التعريف الاجتماعي للجريمة، لكن في الحقيقة فهو يرمز إلى غير ذلك تماما، بحيث ينص على أنه "يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية".

مضمون هذا الفصل يشير بشكل ضمني إلى فلسفة التجريم لسلوك دون الآخر، فلماذا يجرم المشرع سلوكا ويبيح آخر؟. بحسب هذا الفصل، فإن تجريم بعض الأفعال يجد مبرره في الاضطراب الذي تحدثه بالنظام الاجتماعي، وبالتالي، فالمشرع ومن خلاله المجتمع سيصدر نصا مجَرما لهذا السلوك. من هنا، يجب أن تكون لكل النصوص الزجرية هدفا وغاية، الهدف يرمي إلى ردع السلوكيات المرفوضة مجتمعيا والغاية تتلخص في المحافظة على النظام الاجتماعي، بمعنى آخر، فإن القاعدة الزجرية لن تكتسي المشروعية إلى إذا جاءت بالرد الملائم على الرفض الاجتماعي للسلوك المقصود بالتجريم.

هذا التعليق على الفصل الأول من القانون الجنائي يسمح لنا بالقول على أنه يحمل أحد ملامح السياسة الجنائية وأن تصنيفه في مطلع فصول مجموعة القانون الجنائي المغربي لم يكن بمحض الصدفة.

في غياب تصور رسمي ومعلن للسياسة الجنائية بالمغرب، واقتصارا على المؤشرات التي يتضمنها الفصل الأول من القانون الجنائي، فإن أية محاولة لتعريف السياسة الجنائية سيغلب عليها الطابع المعياري، فمن خلال الغاية من التجريم المنصوص عليها في القانون الجنائي، تكون السياسة الجنائية هي مجموع الدراسات المعمقة لسلوك الشخص أو الأشخاص (ماديين ومعنويين) الذي يحدث أو من شأنه أن يحدث اضطرابا اجتماعيا، وتمكننا من إعداد الرد الاجتماعي المناسب بعقوبات أو تدابير وقائية.

هذا التعريف يبرز أن الجهاز التنفيذي هو من يتولى صياغة تصور السياسة الجنائية، والتشريع يتدخل على مستوى تجسيد هذا التصور على شكل نصوص قانونية والجهاز القضائي على مستوى التطبيق؛ (نلاحظ تداخل الأجهزة الثلاث في هذا المجال، وهو ما يفسره وجود وزير العدل على أعلى هرم النيابة العامة دونما تضارب مع مبدأ فصل السلط).

السياسة الجنائية ونفعية القاعدة الجنائية

النظام الاجتماعي يتأسس على الولاء للقواعد القانونية التي تنظمه، وهذا يفرض أن الانصياع الإرادي لمكونات المجتمع للقوانين والذي يتطلب بدوره تشريعا مندمجا ترسمه سياسة ويتميز بالوضوح. يقول "ميشيل فوكو" أن السياسة هي طريقة قيادة سلوكيات الأشخاص الذي يشكلون ساكنة دولة ما؛ وبتحويل هذا التعريف إلى المجال التشريعي، تكون السياسة الجنائية هي العلم الذي يستخدم التشريع الجنائي كأداة لضبط وتنظيم سلوك وتصرفات الأفراد، وهي سياسة تتلاقح مع السياسات الأخرى وتتفاعل بشكل مستمر مع الظرفيات الاجتماعية.

تشكل السياسة الجنائية البوصلة التي توجه المشرع نحو جميع القوانين اللازمة للمحافظة على النظام الاجتماعي، وعندما يكون القانون إنتاجا لسياسة جنائية متمكنة من غايتها، فإنها ستؤسس من دون شك محيطا راقيا، محيطا حيث يفرض القانون على الجميع ليس بالقوة ولكن بغايته المشروعة، وبالتالي فإن الأفراد سيتصرفون ليس بحسب أهوائهم، ولكن، ومن دون أن يتخلوا عن حريتهم، سيتصرفون، عن دون قصد، في مصلحة الجميع.

في هذا الاتجاه، يمكن لمس السياسة الجنائية في المجال القضائي، السياسة الجنائية ترسم القوانين التي من شأنها أن تنجح في توجيه خيارات الأفراد في مصلحة الجميع أو المجتمع ككل؛ ومن هذه الزاوية، تشكل السياسة الجنائية الآلية التي ستمكن من وضع المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية على سكة واحدة؛ لكن، من أجل تحقيق تحالف بين المصلحتين (العامة والخاصة)، يجب أن ينجح القانون في تحقيق انخراط غالبية المجتمع، وهو هدف لا يمكن تحقيقه بكل سهولة.

فالمشرع الذي يبلغ بتصورات وتوجيهات السياسة الجنائية عليه أن يبحث بداية على الصياغة المناسبة التي ستتلاءم مع الأهداف والغاية المرجوة من مشروع أو مقترح القانون؛ فخلال وضع ديباجة النص القانوني، يجب أن يحدد المشرع كيف يجب تحرير وعقلنة الصياغة حتى يتأتى مستقبلا التأثير على الأفراد ومن تم توجيه سلوكهم.

يجب أن يكون النص القانوني مركزا، واضحا، سهل الفهم، شاملا ولا يحتمل التناقض أو الغموض؛ هذه الشروط، وإن كانت لا تراعى في العديد من الأحيان، إلا أنها تشكل هوة بين التصور الذي وضعته السياسة الجنائية على المستوى التنفيذي وبين خروج النص، مما سيخلق ارتباكا على مستوى التطبيق، أي المستوى القضائي؛ فالغاية من التجريم يجب أن تختزلها صياغة النص، وهو علم قائم بذاته لا زال لم يخترق منظومتنا التشريعية.

إلغاء الصفة الإجرامية... بُعد مفقود

إن مسألة إلغاء النصوص الجنائية أو رفع صفة التجريم عن بعض الأفعال هي من المعيقات التي تؤثر على مسلسل تطور النظام الاجتماعي وتأقلمه مع التحولات التي يعرفها المجتمع على كل المستويات. بالنسبة لـ "دوركهايم"، "عندما تفقد القواعد الاجتماعية التي توجه سلوكيات الأفراد وطموحاتهم سلطتها، أو تصبح غير متعارضة فيما بينها، أو عندما تفقد توازنها بسبب تحولات اجتماعية، يجب أن تترك مكانها لغيرها".

الواقع يعكس أننا نشرع بدون توقف من أجل تجريم سلوكيات وأفعال كانت من قبل مقبولة اجتماعيا ولكن نادرا، إن لم نقل أبدا، ما نشرع من أجل رفع الصفة الإجرامية أو إباحة أفعال كانت مجَرمة وأصبحت، بفعل التحول المجتمعي، مقبولة اجتماعيا؛ هذه الوضعية تؤدي إلى إنتاج تضخم جنائي قد تكون له آثار سلبية على تأثير القانون على الأفراد.

فالسلوك الذي كان مضرا بالنظام الاجتماعي في وقت، يمكن أن لا يكون كذلك في وقت وسياق آخرين؛ فبفعل التطور التاريخي للمجتمعات، تقبل هذه الأخيرة تدريجيا أفعالا كان مرفوضة من قبل، وبالتالي فإن تجريمها لا يبقى له أي مبرر وبقوة القانون تصبح متجاوزة.

فالتنامي التصاعدي للتجريم يوسع من مساحة الممنوع، ومن تم يقلص من مجال المسموح، وهو ما يؤدي، منطقيا، إلى تفاقم الضغط القانوني. النتيجة هي التقليص المسترسل من مساحة الحريات.

التشريع في اتجاه واحد من شأنه أن يضيق الخناق القانوني على إرادة الأفراد، وهي وضعية لا يمكن أن تستمر بكل تأكيد إلى ما لا نهاية، وبالتالي، لابد من التفكير، بشكل دوري، في مراجعة بعض النصوص من ناحية صياغتها وأحيانا في حذفها والاعتراف بقبول بعض السلوكيات التي أصبحت مقبولة اجتماعيا لتترك المساحة شاغرة لقوانين أخرى أصبحت ملحة، وحتى لا نصل إلى مرحلة أزمة القاعدة.

حفاظا على منهجية التحليل السببي نعود إلى علة التجريم المنصوص عليها في الفصل الأول من القانون الجنائي المركزة على خيار الحفاظ على النظام الاجتماعي، هذا الأخير الذي يشكل نواة التجريم ينبني على محددات ذاتية وموضوعية دائمة التغير. من هنا نخلص إلى أن القانون يجب أن يتدخل أيضا من أجل رفع التجريم على الأفعال التي باتت مقبولة اجتماعيا.

فتقدير درجة إخلال السلوك بالنظام الاجتماعي يرجع، بالدرجة الأولى، إلى السياسة الجنائية التي يقع على مسؤوليتها وزر تقييم انعكاسات تجريم أفعال تعتبر اجتماعيا ملائمة للسلوك القويم، ليس فقط على النظام الاجتماعي، بل كذلك على النظام القانوني برمته؛ لكن ليس المقصود برفع الصفة الإجرامية على السلوك إلغاء القانون المعاقب فحسب، ولكن يمكنه أن يحتمل مجموعة من الأشكال مثل إعادة تكييف السلوك من جناية إلى جنحة أو من جنحة إلى مخالفة أو إحداث أعذار قانونية أو وقف التنفيذ أو الغرامات، بدل العقوبات السالبة للحرية إلى غير ذلك من التدابير التي تتناسب مع الخطورة التي أضحت هذه الأفعال تشكلها على النظام الاجتماعي؛ فغياب هذا البعد في السياسة الجنائية، يمكن تداركه في مجال إنفاذ القانون من خلال آليات تعتمدها السياسة الجنائية في الواقع القضائي، ولو بدون مرجعية واضحة وغير معلنة.

السياسة الجنائية على مستوى التطبيق

إن مبدأ إقليمية القانون الجنائي وخاصيات القاعدة القانونية يقران بأن يطبق القانون الجنائي حرفيا على مجموع التراب الوطني، وبغض النظر عن المتطلبات الخاصة والظرفية للنظام الاجتماعي، يجب التذكير بأن النظام الاجتماعي الذي يرمي القانون الجنائي لحمايته هو مرتبط وملتصق بخصوصيات ومحددات موضوعية محلية تتحول مع مرور الزمان وتختلف بحسب الموقع الجغرافي.

هذا المعطى الثقيل يلزم علينا إيجاد صيغة مندمجة تؤمن التشريع الجنائي من فقدان المصداقية، ومن بين هذه الآليات وجدنا، في التشريع المغربي، الإمكانية التي يخولها القانون لممثل النيابة العامة لاختيار طريقة التعامل مع الإجرام، وأن يقرر اللجوء أم لا إلى السبيل الزجري. هذه الآلية تلزم النيابة العامة بملاءمة قراءة النص القانوني مع الحالات والأوضاع التي تعرض عليه ارتباطا بظروف الزمان والمكان.

نعتمد في هذا التحليل على مقتضيات المادة 49 من قانون المسطرة الجنائية التي تخول للوكيل العام للملك سلطة السهر على تطبيق القانون الجنائي داخل نفوذ محكمة الاستئناف التابع لها؛ من أجل ذلك، فالقانون يمنحه سلطة على جميع أعضاء النيابة العامة التابعين له وكذا على جميع ضباط وأعوان الشرطة القضائية وكذا الموظفين المكلفين ببعض مهام الشرطة القضائية الذين يعملون داخل نفوذ محكمة الاستئناف.

إذا ما زاوجنا بين مقتضيات المادتين 49 و 51 من قانون المسطرة الجنائية نستنتج أن الوكيل العام للملك يتوفر على الوسائل والآليات العملية والقانونية لتطبيق التوجيهات المحددة من طرف السياسة الجنائية. هذا الموقف تؤكده صلاحية هذه الهيئة في قاعدة "ملاءمة المتابعة" التي تفيد أن ممثل النيابة يمكنه أن يحرك الدعوى العمومية أو حفظ الملف.

من خلال المتابعة يجب على ممثل النيابة العامة أن يقيم إمكانيات تحريك الدعوى العمومية، ولكن كذلك جدوى تحريك هذه المتابعة بالنسبة للنظام الاجتماعي؛ أليس هو ممثل المجتمع؟. من خلال قراره بتحريك الدعوى العمومية أو حفظ الملف يجب أن يعطي ممثل النيابة العامة الأولوية لمصلحة النظام الاجتماعي على حساب الطموحات التي يتطلع إليها الأطراف من خلال الدعوى الجنائية؛ هذه الإمكانية إن تم التعامل معها بالشكل المطلوب، ستشكل إحدى المحاور الأساسية للسياسة الجنائية.

من بين الصور الملموسة للسياسة الجنائية في نظامنا الاجتماعي نجد مسطرة الصلح التي تنص عليها المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية، التي تتمحور حول إيجاد حل لنزاع جنائي خارج الدائرة الزجرية من خلال تحقيق توافق بين أطراف النزاع يتحمل مسؤولية تدبيره ممثل النيابة العامة ويصادق عليه رئيس المحكمة. وإن كانت هذه المسطرة مستقاة من تجارب أخرى فإنها تشكل وجها بارزا وملموسا للسياسة الجنائية المغربية التي في صلبها تبحث عن الحفاظ على بدائل عن المسطرة الزجرية التي هي أجدى للنظام الاجتماعي.

من هنا يظهر أن النيابة توجد في الصف الأمامي على جبهة تطبيق السياسة الجنائية، وبالتالي لا بد لأعضائها بمناسبة القيام بصلاحياتهم أن يأخذوا بعين الاعتبار توجيهات السياسة الجنائية والعلة في التجريم كما حددها الفصل الأول من القانون الجنائي.

نورد أحد الأمثلة لهذا الموقف كالعري المتعمد الذي يشكل الركن المادي لجريمة الإخلال العلني بالحياء العام، فهذا العنصر يتم اعتباره بحسب معطيات ومؤشرات واقعية وموضوعية التي تمنح لصياغة الفصل 483 من القانون الجنائي مصداقيته.

تكييف وقائع هذه الجريمة يختلف بحسب ما ارتكب الفعل في وسط قروي محافظ أو بوسط حضري منفتح على النمط الغربي، إذ يصعب استساغة متابعة فتاة ترتدي ملابس قصيرة من أجل الإخلال العلني بالحياء العام بالدار البيضاء أو الرباط أو غيرها من المدن الكبرى، لكن ذلك مقبول اجتماعيا بالنسبة لنفس الحالة إذا ما تحققت بقرية صغيرة ومحافظة.

محددات النظام الاجتماعي مختلفة بحسب المناطق، لكن الأمر يتعلق بنفس القانون وأجهزة إنفاذ القانون التابعة لنفس الدولة. ما هو السر في ذلك إذن؟، هذا يرجع بنا إلى ما أشرنا إليه في بداية الفقرة من مبدأ إقليمية القانون الجنائي وخاصيات القاعدة القانونية تؤثر فيهما السياسة الجنائية لتخضعهما إلى المحددات المحلية للنظام الاجتماعي.

على مستوى آخر، تتدخل السياسة الجنائية لتحل محل التشريع، بعض الأحيان تقتضي تدخل المشرع بشكل فوري لمواجهة وضعيات إجرامية مفاجئة لكن مسطرة التشريع ونظرا لتعقيداتها قد تتخذ وقتا لا يتناسب مع ما تقتضيه الوضعية.

هذا الفراغ ستملؤه السياسة الجنائية إلى حين إصدار القانون، وندرج في هذا الباب على سبيل المثال المذكرة التي كان قد أصدرها وزير العدل يلزم فيها ممثلي النيابة العامة من أجل التماس إجراء تحقيق في حوادث السير الناتج عنها وفاة من أجل مواجهة آفة حوادث السير التي كانت تتصاعد بوثيرة مقلقة إلى حين صدور قانون 52-05 الذي دخل حيز التطبيق في أكتوبر 2010. نلمس مرة أخرى سبب وجود وزير العدل على أعلى هرم النيابة العامة؛ وللإشارة، فإن هذه الاعتبارات تأخذ بها جميع السياسات الجنائية في العالم وتشكل عنصرا أساسيا في تحقيق التوازن في معادلة العدل والنظام الاجتماعي في جميع أبعادهما.

نستنتج أن روح النص القانوني وتوجيهات رئيس النيابة العامة يرتبطان بالمحددات السوسيو-اجتماعية والظروف والظرفيات الاقتصادية والسياسية للمجتمع، التي تشكل في آخر المطاف النظام الاجتماعي الذي يجب حمايته. والنتيجة هي أن تكييف الوقائع من طرف النيابة العامة تتوقف على مدى الإخلال بالنظام الاجتماعي الذي قد تحدثه هذه الأفعال.

موقع السياسة الأمنية

الحاجة للأمن تبرز منذ الوهلة الأولى التي يدخل فيها الشخص في اتصال بمحيطه وهي بالتالي حاجة مستمرة ومتضاربة؛ فالسياسة الأمنية هي تلك الأجوبة التي تقدمها الأجهزة المكلفة بالأمن للانشغالات التي تحس بها وتعلن عنها جميع مكونات المجتمع.

فهي تلك المقاربة المتعددة الأبعاد التي تتوافق مع الظروف والظرفيات وترمي إلى توجيه سلوك الأفراد بتناسق تام مع السياسات الأخرى؛ من زاوية أخرى، تسعى الأجهزة الأمنية من خلال سياستها، بحكم موقعها المتقدم في مسلسل الدعوى الجنائية، إلى مراعاة توجهات السياسة الجنائية المعمول بها.

فالمقاربة الأمنية المحضة من شأنها خلق نوع من التشنج بين الأداء الشرطي والحاجيات الأمنية للمواطنين، وبالتالي، عدم الانسجام بين الخدمات الشرطية واختيارات السياسة الجنائية.

الشرطة القضائية تتولى، تحت إشراف النيابة العامة وبتوجيه منها، التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها وإيقافهم وإحالتهم على الجهة القضائية المختصة، بذلك تتحقق علاقة عضوية بين مهمة الشرطة القضائية وصلاحيات النيابة العامة، وبالتالي، فإن الشرطة لا يمكنها بأي حال من الأحوال عدم العمل من داخل توجهات السياسة الجنائية.

في مجال الاستعلامات العامة، تلعب الشرطة دورا بالغا في الأهمية في رسم السياسة الجنائية، بحيث تتولى إخبار السلطات الحكومية بالمعلومات الضرورية من أجل إطلاعها على كل المخاطر التي تشكل أو قد تشكل خطرا على النظام العام في جميع أبعاده (النظام العام، أمن المؤسسات، أمن الأشخاص والممتلكات...).

من هنا يمكن القول على أن الشرطة هي الأرضية التي تمازج بين اختيارات السياسة الجنائية ومتطلبات النظام الاجتماعي، بمعنى، أنها تعكس على المستوى التطبيقي -من خلال أدائها وخدماتها- الرؤية والتصور النظري للسياسة الجنائية.

هذه المهمة تتطلب تصورا شاملا ومناسبا، الذي لا يمكن أن يكون سوى نتاج عمل ذهني أمني يتلخص في "السياسة الأمنية"؛ بهذا يشكل تلاحم السياسة الجنائية والسياسة الأمنية أمرا محسوما ولا محيد عنه بسبب غاية كل من السياستين والآليات التي تعتمدها، سواء في الشق الوقائي أو في الشق الزجري، في سبيل استيعاب الإجرام في حده المقبول اجتماعيا (لكل مجتمع نصيبه من الإجرام) وكل المشاكل المرتبطة به.

السياسة الأمنية تهدف بالأساس إلى الوقاية من الجريمة، وهو ما يستشف من الفصل الأول من القانون الجنائي، وما تجريم الأفعال التي من شأنها إحداث الاضطراب الاجتماعي إلى وجها من وجوه الوقاية التي تستند على الردع كأسلوب لثني المجرمين على ارتكاب الجريمة. أما بالنسبة للشرطة، فهي تتقاسم مع السياسة الجنائية في هذه المقاربة، بحيث تسعى في عملها لاتخاذ تدابير استباقية من أجل تحقيق نفس الهدف.

الإجراءات الاستباقية هي من أولويات السياسة الجنائية الحديثة في مجموعة من الدول المتقدمة في هذا المجال، بحيث بدأت تنعكس حتى على تشريعاتها من قبيل تحميل جزء من المسؤولية للضحية الغير اليقظة أو فرض بعض معايير السلامة على بعض البنايات وغيرها؛ وفي هذا المجال نجد تدخل الشرطة بسياستها الأمنية المواكبة أمرا ضروريا، وبالتالي، فإن السياستين تتقاطعان ثم تسيران على خط واحد.

تبعا للظروف المتغيرة يجب تحديد الاختيارات، بالنسبة للخدمات الشرطية، التي تخرج من رحم السياسة الجنائية، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة ما دامت السياسة الجنائية تتساءل عن جدوى إثارة الدعوى العمومية في نوازل معينة؛ فليتساءل الشرطي عن كيفية وجدوى تدخله في هذه الحالات.

في الختام، ومن أجل ضمان الحفاظ على نظام عام متناغم يجب على الشرطيين، باختلاف رتبهم ومستويات مراكزهم في صنع القرار الأمني، أن يستحضروا توجهات السياسة الأمنية ومن خلالها السياسة الجنائية.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-