أخر الاخبار

القضاء الدولي الجنائي- بحث مطول - الجزء الثاني

القضاء الدولي الجنائي
القضاء الدولي الجنائي


يمكنك قراءة الجزء الاول من هنا



ثالثاً : الجهاز الإداري في المحكمة الجنائية الدولية 
يشمل الجهاز الإداري كلا من قلم المحكمة والموظفون الإداريون:

-قلم المحكمة: هو المسؤول عن الجوانب غير القضائية من إدارة المحكمة وتزويدها بالخدمات دون المساس بسلطات المدعي العام، ويرأس المسجل رئاسة قلم المحكمة وهو المسؤول الإداري والرئيسي لها،ويمارس مهامه تحت سلطة رئيس المحكمة .

وينتخب القضاة المسجل بطريقة سرية(4)، وبالأغلبية المطلقة للقضاة آخذين في اعتبارهم أي توصية تقدم من جمعية الدول الأطراف، ويمكن بحسب الحاجة انتخاب نائب للمسجل بنفس الطريقة وبتوصية من المسجل،كما يتم عزله كذلك هو أو نائبه باتخاذ قرار العزل بالأغلبية المطلقة للقضاة.

ويشغل المسجل منصبه لمدة خمس سنوات، ويجوز انتخابه لمرة واحدة، ويعمل على أساس التفرغ، ويشترط فيه أن يكون من ذوي الأخلاق العالية والكفاءة الكبيرة في ميدان عمله، ويمارس عدة أعمال مهمة منها: استيداعه للائحة الاتهام من المدعي العام وتوجيه الإخطارات وإعداد سجل كامل بالمحاكمات والحفاظ عليها،...

وينشئ المسجل وحدة تسمى"وحدة المجني عليهم والشهود"ضمن قلم المحكمة، وتوفر هذه الوحدة مع المدعي العام تدابير الحماية والترتيبات الأمنية والمشورة والمساعدة الملائمة للشهود والمجني عليهم الذين يمثلون أمام المحكمة وغيرهم ممن قد يتعرضون للخطر أثناء إدلائهم بشهاداتهم، ويجب أن تضم هذه الوحدة موظفين ذوي الخبرة في هذا المجال ...

- الموظفون: تطرقت المادة(44)من النظام الأساسي إلى الموظفين الإداريين عندما نصت على أنه لكل من المدعي العام والمسجل تعيين الموظفين المؤهلين اللازمين لمكتبيهما،ويكفل في تعيينهم توافر أعلى معايير الكفاءة، مع مراعاة النظم القانونية والتوزيع الجغرافي العادل.

وللمسجل بموافقة هيئة الرئاسة والمدعي العام اقتراح نظام أساسي للموظفين يشمل شروط التعيين والمكافأة والتنقل على أن يوافق على هذا التنقل جمعية الدول الأطراف.

المطلب الثاني :

الأحكام المتعلقة بتكوين المحكمة

تضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جملة من المبادئ والأحكام المتعلقة بتنظيم عمل المحكمة سواء كيفية إنشاء المحكمة وطبيعة المحكمة وعلاقاتها بالأمم المتحدة وبالدول وسريان نظامها الأساسي، وما إلى ذلك من الأحكام التي سنتناولها وفقاً للترتيب التالي.

أولاً : الأحكام ذات الطبيعة الإجرائية :

1 - طريقة إنشاء المحكمة :

بما أنه لا توجد سابقة دولية لإنشاء هذا النوع من القضاء الدائم،فقد ترددت أثناء الأعمال المتعلقة بإعداد مشروع النظام الأساسي للمحكمة عدة وسائل تتصل بكيفية إنشاء المحكمة، سواء في الفترة الأولى من الجهود الدولية الهادفة لإنشائها والممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطلع التسعينيات، خاصة مع لجنتي جنيف ونيويورك، أو حتى بعد اتخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة لتوصيتها رقم47/33-في 25 نوفمبر سنة 1992 والتي طلبت من خلالها من لجنة القانون الدولي إنجاز صياغة مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ويمكن إجمال مختلف المقترحات الواردة بهذا الخصوص في أربع وسائل أساسية : (1)

1-أن تنشأ المحكمة هيئة مساعدة للأمم المتحدة وذلك بناء على توصية تصدرها الجمعية العامة استنادًا إلى الفقرة الثانية من المادة السابعة وكذلك المادة الثانية والعشرين من الميثاق باعتبارها فرعاً رئيسياً للأمم المتحدة بجانب الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصايا ومحكمــــة العـــــدل الدوليــــة (2) .

2- أن تنشأ بتعديل الميثاق خاصة المادة الثانية والتسعين المتعلقة بمحكمة العدل الدولية بحيث يشمل التعديل إنشاء دائرة جنائية تابعة لمحكمة العدل الدولية.

3-أن تنشأ المحكمة بطريقة مختلطة عن طريق توصية عن الجمعية العامة توصي فيها بقيام المحكمة، إلا أن المحكمة لا تنشأ بموجب هذه التوصية وحدها، وإنما تعقد الدول اتفاقاً يمنحها الاختصاص بنظر الجرائم الدولية.

4- أن تنشأ المحكمة عن طريق اتفاقية دولية جماعية من خلال مؤتمر ديبلوماسي يعقد تحت رعاية الأمم المتحدة،بحيث لا تقام المحكمة إلا إذا وافق على إنشائها عدد معين من الدول وصادق كذلك على نظامها الأساسي عدد معين من الدول.

وهذه الطريقة الأخيرة هي التي تبناها الفريق العامل المعني بوضع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث أوصى بأن يتم إنشاء المحكمة كجهاز قضائي مستقل عن طريق معاهدة متعددة الأطراف وملزمة للدول التي ترتضي أن تصبح أطرافاً في هذه المعاهدة.

وقد اعتبر هذا النهج القائم على الموافقة الصريحة للدول متفقاً مع مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية، علاوة على كفالة السلطة القانونية للمحكمة،بموجب نظامها الأساسي الذي سوف يرتب وينظم علاقة المحكمة مع منظمة الأمم المتحدة والدول، كما عكسته ردود وتعليقات كثير من الدول، التي اعتبرت"أن مشروعية جهاز من هذا القبيل لا يمكن أن يكفل إلا بموجب معاهدة دولية متعددة الأطراف(1)"، وأن إنشاء المحكمة المقترحة لا يتسنى إلا بموافقة صريحة من الدول تتجسد في معاهدة دولية، ويكون دائماً محدوداً بالقدر الذي تريد الدول أن تلتزم به(1) "

وبناء عليه كان الحل الأنجع أن تنشأ المحكمة عن طريق اتفاقية دولية جماعية من خلال مؤتمر ديبلوماسي يعقد تحت رعاية الأمم المتحدة، وهو ما تم بالفعل في روما عندما اعتمد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بواسطة اتفاقية دولية رعتها الأمم المتحدة.

وهي معاهدة دولية ملزمة للدول التي ستصبح أطرافاً فيها إما بالتوقيع أو التصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام إلى هذه المعاهدة وبالشروط والكيفية التي حددتها المادة المائة والخامسة والعشرون من النظام الأساسي للمحكمة،بحيث يخضع النظام الأساسي للتصديق أو القبول أو الموافقة من جانب جميع الدول الموقعة عليه،وتودع صكوك التصديق أو القبول أو الموافقة لدى الأمين العام للأمم المتحدة، أما باب الانضمام إلى هذا النظام فهو مفتوح أمام جميع الدول، وتودع الصكوك المتعلقة بذلك أيضاً لدى الأمين العام للأمم المتحدة.

2- علاقة المحكمة بمنظمة الأمم المتحدة.

من بين أكثر المسائل التي نوقشت في إطار هذه المبادئ والأحكام طوال مراحل إعداد النظام الأساسي للمحكمة مسألة العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة. (2)

ففي التقارير الأولية خاصة التقرير الحادي عشر المقدم من المقرر الخاص اعتبر هذا الأخير في تقريره المتضمن لمشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية أنه من الضروري أن"تنشأ المحكمة باعتبارها هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة"معللاً ذلك بالقول أنه يجب التوكيد على المنفعة الكبرى من جعل المحكمة هيئة تابعة للأمم المتحدة، معتبرا أن وجود محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية كهيئة من هيئات الأمم المتحدة أمر لا يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة،كما أن المادة الأولى من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية تنص على أن هذه المحكمة هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، مما يترك المجال مفتوحا أمام هيئة قضائية أخرى تكون لها الولاية في الشؤون الجنائية (1) .

ويبدو أن هذا ما أكده قرار مجلس الأمن الدولي رقم 808 في 22 فبراير 1993 الذي أنشأ بموجبه المجلس محكمة جنائية دولية لمحاكمة مقترفي جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة .

على أنه داخل الفريق العامل المعنى بإنشاء محكمة جنائية دولية دار نقاش كبير بشأن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه طبيعة هذه العلاقة .

ففي حين فضل البعض الرأي السابق بهدف ضمانة الصفة العالمية للمحكمة وتعزيز سلطاتها الأدبية، وبالتالي فمن الأفضل أن تنشأ المحكمة كجهاز من أجهزة الأمم المتحدة، عبر تعديل الميثاق باللجوء إلى المادة 109 منه خاصة وأن النقاشات تدور حالياً حول ضرورة إعادة تشكيل مجلس الأمن الدولي(1)، ذهب آخرون إلى إبراز الصعوبات التي تكتنف هذا الخيار، ودعوا بالمقابل إلى قيام نوع من العلاقة مع المنظمة مثل إبرام معاهدة للتعاون على غرار المعاهدات المبرمة بينها وبين وكالاتها المتخصصة،أو حتى معاهدة مستقلة تنص على تولي الجمعية العامة انتخاب القضاة، كما رؤى كذلك أن وجود رابطة رسمية على الأقل بين المحكمة ومنظمة الأمم المتحدة سينطوي على ميزة ليس فقط من حيث السلطة والدوام الذي ستحرزهما المحكمة بذلك، بل لأن جزء من اختصاصها قد يتوقف على قرارات من مجلس الأمن الدولي(2) .

هذه الفكرة الأخيرة كانت مدعومة في الواقع بردود وتعليق كثير من الحكومات التي وردت على تقرير الفريق العامل المعني بوضع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية بعد إنجازها لهذا المشروع(3)، والتي ذهبت إلى ضرورة قيام علاقة وطيدة بين منظمة الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وأن تؤدي الأمم المتحدة دوراً مهماً في إنشاء المحكمة وفي سلطتها الفعلية، وفي نفس الوقت لا ينبغي مطلقاً أن يتم تنظيم المحكمة في إطارها،بل يجب أن تتوفر نقاط مهمة للاتصال بين المحكمة والمنظمة لتصبح مرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً دون أن تشكل جزء منها.

هذا التأكيد على أن الأمم المتحدة يجب أن تؤدي دوراً مهماً في إنشاء المحكمة وفي أنشطتها الفعلية، دون أن يتم تنظيمها في إطار المنظمة الأممية يأتي في الواقع بالاستناد إلى جملة من الأسباب، فعلاوة على الأسباب الشكلية المتعلقة بأن إنشاء المحكمة في إطار منظمة الأمم المتحدة يتطلب تعديل ميثاق المنظمة الأمر الذي قد يؤخر الإسراع في إنشاء المحكمة فإن هذه الأخيرة متصلة أصلا بالمنظمة بعدة نقاط اتصال من أهمها السلطة المخولة لمجلس الأمن بموجب النظام الأساسي للمحكمة(1) .

وبالتالي كان من الأنسب قيام رابطة واضحة عبر اتفاق لتسهيل التعاون بينهما،بما أن جانباً من اختصاص المحكمة قد يتوقف على قرارات مجلس الأمن الدولي، وهذا الاتفاق سيكون تيمناً بالاتفاقات المبرمة بين الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة عملاً بالمادتين 57/63 من ميثاق الأمم المتحدة(2) .

و ترتيباً على مجمل الرؤى السابقة فقد تم التوصل عند اعتماد النظام الأساسي للمحكمة إلى تحديد العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة،بحيث تنشأ المحكمة كجهاز قضائي مستقل عن طريق معاهدة متعددة الأطراف،باعتبار أن هذا النهج يتفق مع مبدأ سيادة الدول،ويكفل السلطة القانونية للمحكمة في ضوء الصعوبات التي سينطوي عليها إنشاء المحكمة كجهاز من أجهزة الأمم المتحدة،شريطة أن ترتبط المحكمة بالمنظمة برابطة قانونية عبر اتفاقية تحدد طبيعة هذه العلاقة.

وبالفعل ففي ديباجة النظام الأساسي للمحكمة تم التأكيد على "إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة مستقلة وذات علاقة بمنظمة الأمم المتحدة " ، كما تضمنت المادة الثانية من النظام الأساسي الإشارة إلى "ضرورة أن يتم تنظيم العلاقة بين المحكمة والمنظمة الأممية،بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها"

إن تنظيم العلاقة على هذا النحو في الواقع طريقة مناسبة لإقامة الصلة المطلوبة للتعاون الوظيفي بين الهيئتين مع المحافظة في نفس الوقت على استقلال المحكمة.

فالمحكمة هي الهيئة القضائية الجنائية الدولية،على أن معظم القضايا التي ستثار أمام المحكمة هي بالأساس تدخل ضمن نطاق مهام الأمم المتحدة وأهم الأهداف التي قامت لأجلها (حفظ السلم والأمن)، كما أن معظم وأهم النقاشات التي تمت حول فكرة المحكمة الجنائية الدولية تمت في إطارها وتحت رعايتها وبالأخص مؤتمر روما الذي اعتمد فيه النظام الأساسي للمحكمة.

وفوق ذلك فالنظام الأساسي مراعاة لكل هذا التداخل والتكامل الوظيفي - علاوة على أن جزءا ًمن اختصاص المحكمة سيتوقف على قرار يتخذ من مجلس الأمن - ، أعطى للأمين العام للأمم المتحدة عدة وسائل للعمل بجانب المحكمة كمسائل: تلقي قبول الدول للنظام الأساسي، واستيداعه، للتصديقات عليه وانضمامها إليه، وما يتعلق بإجراء أي تعديلات تدخل عليه واستعراض النظام الأساسي، وحتى الانسحاب من هذا النظــــــــام (1) .

3- سريان أحكام النظام الأساسي :

تضمنت المشروعات المقدمة للنظام الأساسي عدة اقتراحات حول بداية سريان النظام الأساسي للمحكمة ودخوله حيز النفاذ. ففي تقرير الفريق العامل عن أعماله في الدورة الخمسين مثلاً تمت مناقشة عدة رؤى حول هذه النقطة، ففي حين ذهب البعض إلى ضرورة توافر عدد كبير نسبياً من التصديقات أو الانضمامات - (60تصديقا) - اللازمة لبدء سريان هذا النظام وذلك بهدف كفالة القبول العام للنظام الأساسي، أعرب آخرون عن القلق إزاء التأخير الذي قد يترتب على اعتماد مثل هذا النهج، وبالتالي تم اقتراح ألا يشترط سوى توافر 20-25 تصديقاً لضمان دخول النظام الأساسي حيز التنفيذ،كما جرى في نفس الوقت التشديد على الحاجة إلى تعزيز المقبولية العامة للنظام الأساسي للمحكمة عبر جعله معبراً على النحو الواجب عن مختلف النظم القانونية في العالم (2) .

ولعل تلك الحاجة إلى تعزيز المقبولية العامة لهذا النظام بجعله معبرا عن مختلف النظم القانونية، هو الدافع إلى أن يتضمن آخر المشروعات المقدمة قبل اعتماد النظام الأساسي خياراً بموجبه لا يبدأ سريان هذا النظام إلا بعد أن يكون عضوا أو عضوين أو أربعة أعضاء من كل مجموعة جغرافية قد وضعوا وثيقة التصديق أو الموافقة أو الانضمام إلى هذا النظام،وذلك في اليوم الستين من تاريخ إيداع وثيقة التصديق أو الموافقة أو الانضمام (1) .

بيد أن التخوف من الصعوبات التي قد يخلقها التقيد بضرورة اشتراط الحصول على تصديقات من عضو إلى أربعة أعضاء من كل مجموعة جغرافية لدخول النظام الأساسي حيز التنفيذ، والذي من شأنه تأخير إنجاز هذه المهمة، قد جعل من تلك الاشتراطات غير عملية ولا تنسجم بالتالي مع المناخ السياسي والفكري الداعم لفكرة استعجال إنشاء المحكمة .

وأخذاً في الحسبان لمختلف الاعتبارات السابقة ، ورغبة في تعزيز المقبولية العامة بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية،وتجنباً للصعوبات التي يمكن أن يثيرها اشتراط توافر مجموعة من التصديقات عن كل مجموعة جغرافية، جاءت المادة 126 من النظام المعتمد في روما مراعية لكل تلك الاعتبارات عندما أكدت على أن " بدء نفاذ هذا النظام لا يكون إلا عقب تصديق أو موافقة أو انضمام 60 دولة، شريطة أن يكون في أول يوم من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع صك التصديق أو الموافقة أو الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة.

وفي نقطة أخرى تتعلق أيضاً بسريان النظام الأساسي قررت المادة 123 أنه عقب انقضاء سبع سنوات على بدء نفاذ هذا النظام، يعقد الأمين العام للأمم المتحدة مؤتمراً استعراضياً للدول الأطراف للنظر في أي تعديلات عليه،ويجوز أن يشمل هذا الاستعراض قائمة الجرائم محل اختصاص المحكمة دون أن يقتصر عليها(1)، كما يكون للأمين العام في أي وقت تال عقد مؤتمر استعراضي بموافقة أغلب الدول الأطراف بناء على طلب أي دولة طرف ولنفس الأغراض السابقة .

والأصل أن تتم التعديلات على النظام الأساسي بتوافق الآراء داخل جمعية الدول الأطراف،كما يلزم توافر 2/3 من الدول الأطراف لاعتماد أي تعديل يتعذر بصدده التوصل إلى توافق داخل جمعية الدول الأطراف في المؤتمر الاستعراضي.

ويبدأ نفاد هذا التعديل بالنسبة لجميع الدول بعد سنة واحدة من إيداع صكوك التصديق أو القبول لدى الأمين العام من قبل 7/8 من أعضاء جمعية الدول الأطراف،أما الدول التي لا تقبل التعديل يكون على المحكمة أن لا تمارس اختصاصاتها فيما يتعلق بأي جريمة مشمولة بالتعديل،عندما ترتكب هذه الجريمة من قبل أحد مواطنيها أو في إقليمها.

وإذا قبلت 7/8 من جمعية الدول الأطراف التعديل جاز لأي دولة طرف لم تقبل التعديل أن تنسحب من النظام الأساسي انسحاباً نافذاً في الحال،بشرط أن لا يعفيها انسحابها من أي التزامات تكون قد نشأت إزاءها بموجب هذا النظام أثناء كونها طرفاً فيه وبشرط أن تكون قد قدمت إشعاراً في موعد لا يتجاوز سنة واحدة من بدء نفاذ التعديل...

4-مقر المحكمة :

الغرض من تحديد مقر المحكمة هو توفير مكان ذي ظروف مناسبة لإجراء محاكمة عادلة للأشخاص المتهمين بجريمة أو أكثر من الجرائم التي تدخل تحت اختصاص المحكمة في ظروف قد لا تكون الإجراءات الأخرى للمحكمة متاحة فيها أو قد تكون فيما عدا ذلك أقل تفضيلا.

ويفضل الفقه الدولي جعل مقر المحكمة الجنائية الدولية في مدينة لاهاي بهولاندا ، على أساس أنها تحتضن مقر محكمة العدل الدولية، ويمكن الاستعانة بالجهاز الإداري المعاون لقضاتها في عمل المحكمة الجنائية وتخفيف المصاريف (1) كذلك.

وبما أن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة دائمة، وبما أن تعيين مقر المحكمة يعد بصورة أساسية مسألة سياسية فكان من الأفضل أن يكون مقر الهيئة القضائية الدولية في مكان تتوفر فيه افضل الضمانات لاستقلال الحكم وحريته.

ومن ضمن عدة مقترحات لتعيين مقر المحكمة(2)، تم اختيار مدينة لاهاي بهولندا لتكون مقراً للمحكمة الجنائية الدولية عندما نصت المادة الثالثة من النظام الأساسي على أن يكون مقر المحكمة في لاهاي بهولندا الدولة المضيفة، بحيث تعقد الدولة المضيفة اتفاق مقر تعتمده جمعية الدول الأطراف ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها.

على أنه يمكن للمحكمة حسب الفقرة الثالثة من نفس المادة أن تعقد جلساتها في مكان أخر عندما ترى ذلك مناسباً وعلى النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي.

5- اللغات الرسمية للمحكمة ولغات العمل :

فرقت المادة 50 من النظام الأساسي بين اللغات الرسمية للمحكمة ولغات العمل بداخلها.فبالنسبة للغات الرسمية حددت نفس اللغات الرسمية المعترف بها في ميثاق الأمم المتحدة (الإسبانية والإنجليزية والفرنسية والصينية والعربية والروسية) بحيث تتساوى في الحجية وحرر النظام الأساسي للمحكمة بهده اللغات، كما تنشر بها الأحكام الصادرة عن المحكمة وكذلك كل القرارات الأخرى المتعلقة بحسم مسألة أساسية معروضة عليها.

أما لغات العمل بالمحكمة فهي الإنجليزية والفرنسية، على أنه يجوز في بعض الحالات استخدام لغات رسمية أخرى كلغات عمل، كما أنه في حالات أخرى وهي حالة طلب أي طرف في الدعوى أو دولة يسمح لها بالتدخل في الدعوى إذن من المحكمة بالسماح باستخدام لغة غير الإنجليزية والفرنسية، شريطة أن ترى المحكمة مبرر لهذا الإذن.

ثانياً : الأحكام ذات الطبيعة المؤسسية :

1- طبيعة المحكمة :

كان الهاجس الكبير عند اعتماد مشروع النظام الأساسي لهذه المحكمة منصباً حول أن وجود محكمة تتحقق فيها صفة الديمومة والاستمرار كفيل بجعلها تتصرف بصورة أكثر تماسكاً والتحاماً بالأحداث تجنبا لأية إمكانية للحديث عن عدالة انتقائية محتملة، فباستحضار الانتقادات الموجهة إلى محاكمة نور مبرج وطوكيو باعتبارهما تحقيق لعدالة المنتصرين، وبحكم أن حركة المحاكم الخاصة قد تحدد ضمن حدود معينة لا يمكن تجاوزها، علاوة على التكاليف الباهضة التي تصاحب إقامة محاكم خاصة يمكن أن تضعف الإرادة السياسية بإقامة مثل هذه المحكمة، فقد روعي ضرورة تشييد محكمة جنائية دائمة،بحيث لا يكون إنشاؤها مؤقتاً أو لتحقيق غاية معينة.

على أن هذه الفكرة لم تكن واضحة تماماً عند البدء في مناقشة مشروع النظام الأساسي للمحكمة وحتى التقرير المنقح للفريق العامل المعني بوضع مشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية سنة1994، في الدورة السادسة والأربعين للجنة والمتضمن لمشروع النظام الأساسي، تمت الإشارة إلى أنه ينبغي أن"تكون المؤسسة مفتوحة للدول الأطراف في النظام الأساسي...وأن تعقد جلساتها عند الاقتضاء للنظر في قضية تعرض عليها (1) " .

ذلك أن كثير من التقارير السابقة وكذلك مختلف ردود وتعليقات الدول حول تلك المشاريع، كانت تذهب إلى ضرورة أن لا تكون المحكمة المنشأة في مرحلة عملها الأولى على الأقل هيئة دائمة متفرغة،بل ينبغي أن تعمل فقط عند الطلب وفقاً لآلية قانونية محددة حيث ستشكل في كل مناسبة يلزم فيها انعقادها،وكان تبرير ذلك في حجم العمل المحدود للمحكمة الذي قد تواجهه في سنوات عملها الأولى على الأقل والتكاليف التي قد تتكبدها الدول نتيجة لإنشاء محكمة جنائيًة متفرغة تضم مجموعة كاملة من القضاة المتفرغين وهيكلاً إداريا ًكاملا....، هذا علاوة على أن كون المحكمة أصلاًً مكملة للولايات القضائية الوطنية الأمر الذي سيجعل حجم العمل فيها أكثر محدودية. ومن ناحية ثانية لا يمكن التنبؤ بما سوف يكون عليه نشاط المحكمة، كما أن اشتراط ديمومتها قد يحرمها من المرونة اللازمة علاوة على مضاعفة التكاليف (1) . وعليه فقد اعتبر أن كون المحكمة مؤسسة دائمة لكنها لا تنعقد إلا عند الاقتضاء مسألة تعكس مزايا المرونة وتقليل التكاليف، حيث يتأكد من ناحية الطابع الدائم للولاية القضائية للمحكمة، ومن ناحية ثانية عمل المحكمة غير الدائم،باعتبار أن عمل المحكمة لا يتعارض مع العمل المتقطع لأجهزتها، وأن انعقاد المحكمة عند الاقتضاء للنظر في قضية معينة تعرض عليها لا يتنافى مع الاستقلال والاستقرار اللازمين للمحكمة (2) .

ومع ذلك فقد رأى البعض أن"القاعدة التي تقضي بأنه لا تنعقد المحكمة إلا عند الاقتضاء يتنافى مع ضرورة دوام محكمة جنائية دولية حقيقية وضرورة استقرارها واستقلالها (1) " .

كما أن جعل أجهزة المحكمة غير متفرغة سينتج عنه إثارة عدد من التساؤلات تتعلق باتساق أو عدم اتساق وظائف القاضي مع أي وظائف أخرى علاوة على كون ديمومة المحكمة واستمرارها سيسهل عملية التئامها عند الضرورة، فالحاجة إلى إنشاء هيئة قضائية دائمة قادرة على تحقيق التناسق و الاتساق في تطبيق القانون الدولي الجنائي وزيادة تطوره،بوصفها بديلاً عن المحاكم التي قد تنشأ لغرض معين،يتطلب أن تتوفر في بنية هذه الهيئة التفرغ التام وديمومة في العمل والإنجاز، ومن هنا فقد رؤي أن دوام المحكمة واستقلالها سيتعززان إذا جرى تعيين قضاة المحكمة والمدعي العام والمسجل على أساس التفرغ (2)، وهذه الفكرة الأخيرة كانت هي النهج الذي تم الموافقة عليه عند اعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث تأكدت الطبيعة الدائمة للمحكمة منذ الديباجة بوصفها"محكمة جنائية دولية دائمة ومستقلة"، تمارس اختصاصها على الأشخاص الطبيعيين إزاء"الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره"وأن المحكمة المنشأة ستكون مكملة للولايات القضائية الوطنية.

2- ميزانية المحكمة :

بما أن عدم توفر الموارد المالية قد يحول دون التماس تحقيق العدالة، وحتى لا يؤدي عدم الاستقلال المالي إلى عرقلة عمل المحكمة (1)، فقد تمت مناقشة عدة أفكار حول الكيفية التي سيتم بها تمويل المحكمة، ويمكن إجمال مختلف الاتجاهات السائدة طوال مراحل إعداد النظام الأساسي في ثلاثة اتجاهات :(2)

- الاتجاه الأول : يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى ضرورة تمويل تكاليف المحكمة من الميزانية العامة للأمم المتحدة، وهذا الرأي في الواقع كان منسجماً مع الاقتراح الذي كان يقضي بأن تكون المحكمة مؤسسة في إطار منظمة الأمم المتحدة للاستفادة من طابعها العالمي.

وعليه ولإتصال عمل المحكمة كذلك بمسائل تتعلق بالسلم والأمن الدوليين، كان من الضروري أن تتمكن جميع الدول من تحريك الإجراءات أمام المحكمة دون أن تتحمل أعباء مالية، وهو هدف لا يمكن تحقيقه إذا لم تساهم في تمويل المؤسسة سوى الدول الأطراف في نظامها الأساسي.

- الاتجاه الثاني: يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى ضرورة أن تتحمل تكاليف المحكمة الدول الأطراف في النظام الأساسي ويؤسسون وجهة نظرهم،على الأهمية التي ستعطى للمحكمة انطلاقاً من الأعمال الجليلة التي ستقوم بها، وهذا الاهتمام الكبير بالمحكمة من جانب الدول ستنجم عنه مشاركة كبيرة من قبلها في النظام الأساسي، وعليه سيكون هناك عدد كبير من الأطراف المساهمين في ميزانية المحكمة.

- الاتجاه الثالث: ويربط أصحاب هذا الرأي بين طبيعة الدور الذي ستلعبه المحكمة وتكاليفها بحيث يرى أن مناقشة مسألة الميزانية بالتفصيل أمر غير ممكن إلى حين اتضاح طبيعة المحكمة ودرجة ما تلقاه من تقبل عام وكيفية علاقتها بالأمم المتحدة.

هذه الفكرة الأخيرة في الواقع كانت أقرب إلى الموضوعية،فالسلطات والاختصاصات التي ستعطى للمحكمة وطبيعة المحكمة المنشأة وكيفية علاقتها بالأمم المتحدة،وحجم العمل والإطار القضائي والوظيفي.. كلها أمور سيكون لها أكبر الأثر على حجم الميزانية..

ومن هنا وبعد أن تم الاتفاق على طبيعة المحكمة واختصاصاتها، - عند اعتماد نظامها الأساسي- فقد تضمن هذا الأخير بخصوص الميزانية نظاماً يقوم على أن نفقات المحكمة ستغطى من الاشتراكات المقررة للدول الأطراف، وكذا من الأموال المقدمة من الأمم المتحدة رهناً بموافقة الجمعية العامة وخاصة فيما يتعلق بالنفقات المترتبة نتيجة للإحالات من قبل مجلس الأمن الدولي(1) .

وبجانب ذلك يجوز للمحكمة أن تتلقى وتستخدم التبرعات المقدمة من الحكومات والمنظمات الدولية والأفراد والشركات وأي كيانات أخرى كأموال إضافية، وذلك وفقاً للمعايير ذات الصلة التي تعتمدها جمعية الدول الأطراف وفقا للنظام الأساسي وللنظام المالي والقواعد المالية التي تعتمدها جمعية الدول الأطراف، التي تدفع جميع مصاريفها كذلك من أموال المحكمة.

أما الاشتراكات فإنها تقرر وفقا لجدول متفق عليه للأنصبة المقررة مستندا إلى الجدول الذي تعتمده الأمم المتحدة لميزانيتها العامة، وتعدل وفقا للمبادئ التي تستند عليها،كما تراجع حساباتها من قبل مراجع حسابات مستقل.

وأخيرا وفيما يتعلق بالتكاليف المرتبطة"بطلبات النقل"،فإذا كان الطلب موجهاً من قبل المحكمة إلى دولة، فلا تتحمل هذه الدولة سوى التكاليف العادية لتنفيذ الطلب في إقليمها،أما التكاليف المرتبطة بسفر الشهود والخبراء أو نقل الأشخاص قيد التحفظ وتكاليف الترجمة وسفر القضاة وموظفي المحكمة وأية تكاليف استثنائية تترتب على تنفيذ الطلب، تتحملها المحكمة من ميزانيتها الخاصة، أما إذا كان الطلب موجها من الدولة إلى المحكمة، فلا تتحمل المحكمة سوى التكاليف العادية لتنفيذ الطلب، بينما تتحمل ذات الدولة كل التكاليف الأخرى . (1)

3- جمعية الدول الأطراف :

وهي الهيئة المسؤولة عن المهام التي تتوقف بالضرورة على قرارات الدول الأطراف، مثل اختيار القضاة واختيار المدعي العام وتحديد الميزانية، وتكون بمثابة قناة اتصال بين المحكمة والدول الأعضاء في شأن المسائل ذات الطابع السياسي.

ولجمعية الدول الأطراف دوراً مركزياً في كل أمور المحكمة، فهي التي توفر الرقابة الإدارية على هيئة الرئاسة والمدعي العام والمسجل فيما يتعلق بإدارة المحكمة، ولها كذلك النظر في ميزانية المحكمة والبث فيها، وتقرير ما إذا كان ينبغي تعديل عدد القضاة والنظر في أي مسألة تتعلق بعدم قيام الدول الأطراف بالتعاون مع المحكمة وتقديم المساعدة اللازمة، والنظر في التعديلات المقترحة واعتماد التعديلات على الأحكام ذات الطابع المؤسسي واستعراض النظام الأساسي، وغير ذلك من المهام المتعلقة بتنحية أو عزل القضاة والمدعي العام، وكذلك الأمور التي تتوقف بالضرورة على قرارات الدول الأطراف ، وكقناة اتصال بين المحكمة والدول بشأن المسائل ذات الطابع السياسي وغيره (1) . ويكون لكل دولة طرف في النظام الأساسي عضو واحد فيها يجوز أن يرافقه مندوبون ومستشارون، ويكون لهذه الجمعية مكتب، يتألف من رئيس ونائبين للرئيس و18 عضوا تنتخبهم الجمعية لمدة ثلاث سنوات، ولهذا المكتب صفة تنفيذية، ويراعى عند تشكيله بصفة خاصة التوزيع الجغرافي العادل والتمثيل المناسب للنظم القانونية الرئيسية في العالم، ويجتمع المكتب كلما كان ضروريا، على أن لا يقل عدد اجتماعات المكتب عن مرة واحدة في السنة، ويعمل المكتب على مساعدة الجمعية في الاضطلاع بمسئوليتها، ويجوز لرئيس المحكمة والمدعي العام والمسجل أو لممثليهم المشاركة حسب المناسبة في اجتماعات الجمعية والمكتب.

وتعقد اجتماعات الجمعية في مقر المحكمة أو في مقر الأمم المتحدة مرة واحدة في السنة أو بحسب الظروف الاستثنائية بمبادرة من المكتب أومن ثلث الدول الأطراف.

ولأهمية وحيوية الدور الذي تلعبه جمعية الدول الأطراف في تنظيم وسير عمل المحكمة نص النظام الأساسي على ضرورة التوصل عند اتخاذ القرارات الأساسية إلى توافق الآراء، أما إذا تعذر اتخاذ أي قرار بتوافق الآراء داخل الجمعية وجب اتخاذ القرارات المتعلقة بالمسائل الموضوعية، بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين المصوتين، أما في حالة المسائل الإجرائية فيتم اتخاذ القرارات بالأغلبية البسيطة للدول الأطراف الحاضرة والمصوتة.

على أنه لا يجوز لدولة طرف متأخرة عن سداد اشتراكاتها المالية في تكاليف المحكمة حق التصويت في الجمعية أو في المكتب، شريطة أن تكون المتأخرات مساوية لقيمة الاشتراكات المستحقة في السنتين السابقتين، أو زيادة عنها، ومع ذلك للجمعية النظر في ما إذا كان التأخير ناتج عن أسباب لا قبل لهذه الدولة الطرف بها وعندها يمكن أن تسمح لهذه الدولة بالتصويت.

وأخيرا تضطلع جمعية الدول الأطراف بدور مهم في عملية تفسير النظام الأساسي للمحكمة، ذلك أنه في حالة حدوث أي نزاع بين دولتين أو أكثر من الدول الأطراف حول تفسير أو تطبيق هذا النظام يحال الخلاف إلى الجمعية، ويجوز للجمعية أن تعمل على تسوية النزاع بنفسها أو أن تتخذ توصيات بشأن أية وسائل أخرى لتسوية النزاع بما في ذلك إحالته إلى محكمة العدل الدولية وفقا لنظامها الأساسي(1) .

4-حصانات وامتيازات القضاة والمدعي العام والمسجل :

أشارت المادة 48 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى جملة من الامتيازات والحصانات التي ينبغي أن يتمتع بها قضاة المحكمة، وهذه الامتيازات من صنف الامتيازات التي تمنح لرؤساء الهيئات الدبلوماسية بموجب القانون الدولي العام. إلا أنه نظر لأهمية ما يقومون به فإنهم يظلون يتمتعون بكل الامتيازات حتى بعد نهاية فترة عملهم، ودلك فيما يتعلق بما كان قد صدر منهم من أقوال أو كتابات بصفتهم الرسمية، ليظلوا بعيدين عن أي ضغوطات أو تأثيرات. وبجانب هده الحصانات والامتيازات الممنوحة للقضاة وبغية إبعادهم كذلك عن أي ضغوطات قد تؤثر على عملهم عالجت المادة 40 مسألة استقلال القضاة والمدعي العام، فاعتبرت أنهم مستقلين في تأدية وظائفهم ولا يزاولون أي نشاط يحتمل أنه يتعارض مع وظائفهم أو يؤثر على استقلالهم، كما لا يزاولون أي عمل ذا طابع مهني.

وبالمقابل فقد تضمن النظام الأساسي الإشارة إلى مجموعة التزامات على القضاة كما فرض جملة من العقوبات تتراوح بين الإجراءات التأديبية العادية في حالة ارتكابهم مخالفة لا تشكل سلوكاً جسيماً، انتهاء باتخاذ قرارا بعزل القاضي أو المدعي العام أو المسجل إذا أتى سلوكاً جسيماً أو أثبت عدم قدرته على أداء مهامه المطلوبة بموجب هدا النظام الأساسي(2) .

المبحث الثاني :

اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية

طبقاً لنظامها الأساسي

كان التحديد الملائم لاختصاصات المحكمة الجنائية الدولية من أهم الأمور الأساسية بالنسبة لمستقبل المحكمة، ولذلك لا غرابة في أن يشكل الباب المتعلق بالاختصاص والمقبولية جوهر نظامها الأساسي لكونه لب عمل المحكمة، ولاتصاله المباشر بمسألة الاختصاص الجنائي الداخلي للدول.

وإذا كان تخلي الدول عن اختصاصها الجنائي المرتبط أوثق الارتباط بمبدأ السيادة من أهم الأمور التي عرقلت إنشاء المحكمة لوقت طويل، فإن التوصل إلى تحديد الجرائم الدولية التي تبلغ من الخطورة إلى الحد الذي ترتضي الدول أن تدمج ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية كان من أهم الخطوات التي ستعجل باعتماد النظام الأساسي وإنشاء المحكمة.

لقد ظلت النقاشات مستمرة للإجابة عن التساؤل حول الكيفية التي سيتم بموجبها إسناد الاختصاص إلى المحكمة عن هذه الجرائم، طالما تعثر التوصل إلى اتفاق حول مدونة الجرائم المخلة بأمن وسلامة البشرية؟ وبالتالي ما هي الجرائم التي تبلغ من الخطورة درجة توجب إدراجها ضمن اختصاصات المحكمة؟ .

كما كان الحرص واضحاً عند اعتماد النظام الأساسي للمحكمة أن لا يدخل في نطاق اختصاصها إلا أشد الجرائم خطورة... وذلك تحقيق لغايتين اثنتين : (1)

- أن لا يتسع اختصاص المحكمة على نحو لا يتفق ولا يتمشى مع الإمكانات المتاحة لها في بداية عملها.

- أن يتحقق مبدأ التكامل بين اختصاص المحكمة واختصاص القضاء الوطني.

المطلب الأول :

كيفية إسناد الاختصاص إلى المحكمة

في الجرائم الدولية

فكرة المحكمة الجنائية الدولية انبثقت أساسا كمحفل لمقاضاة جرائم الحرب والإبادة التي ترعاها الدول والتي تبقى مع ذلك دون عقاب لولا قيام المحكمة، هذه الملاحظة كانت حاضرة طوال مراحل إنجاز الفريق العامل المعني بوضع مشروع للنظام الأساسي لمحكمة جنائية دولية لهذا المشروع.

بيد أن مختلف التقارير والمشاريع المقدمة كانت توسع من نطاق ذلك الاختصاص ليشمل جميع الجرائم ذات الطابع الدولي(1) ، بحيث سلكت النهج الذي بموجبه يتم إسناد اختصاص المحكمة من حيث الموضوع إلى معاهدات دولية قائمة ومحددة منشئة لجرائم دولية الطابع..، بما في ذلك مدونة الجرائم المخلة بسلم وأمن الإنسانية بعد اعتمادها ودخولها حيز التنفيذ، وذلك عبر اختيار الجرائم ذات الطبيعة الدولية التي تنشئها هذه المعاهدات ويمكن للمحكمة ممارسة ولايتها عليها وإدماجها بالتالي في النظام الأساسي للمحكمة . (1)

أولاً : إسناد الاختصاص إلى المحكمة بموجب معاهدات قائمة :

بناء على أساس إسناد الاختصاص للمحكمة من حيث الموضوع إلى اتفاقيات دولية قائمة ومنشئة لجرائم ذات طابع دولي كان المشروع المقترح والمقدم من قبل لجنة القانون الدولي في الدورة السادسة والأربعين والذي أعدته اللجنة بناء على توصية الجمعية العامة رقم 47/36/1992 متضمناً وجود إطارين من الاختصاص يرتكزان بالأساس على إسناد اختصاص المحكمة من حيث الموضوع إلى معاهدات دولية وذلك على النحو التالي:

1-إسناد الاختصاص إلى المحكمة بموجب معاهدات تعرف الجنايات باعتبارها جرائم دولية :

ويشمل المعاهدات الدولية التي تعرف الجنايات باعتبارها جنايات دولية،بموجب القانون الدولي العام وهذه الجنايات تدخل ضمن اختصاص المحكمة دون الحاجة للتوصل إلى اتفاق بشأن القائمة الدقيقة لمعاهدات القانون الدولي الجنائي، وتشمل تلك المعاهدات جرائم الحرب الجسيمة..، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري..

وما إلى ذلك من الجرائم التي تضمنتها المادة الثانية والعشرون من المشروع المقترح(1) .

وقد اعتبر الفريق العامل أن المعيارين الأساسيين الذين أديا إلى اعتبار الجنايات التي أوردتها المادة الثانية والعشرون من المشروع المعد جنايات دولية بموجب القانون الدولي هما: (1)

أولا: كون الجنايات المتضمنة في المادة المذكورة معرفة تعريفاً دقيقاً بحد ذاتها في المعاهدات على نحو يمكن به لمحكمة جنائية دولية أن تطبق قانوناً دولياً اتفاقياً أساسياً فيما يتعلق بالجناية المتناولة في المعاهدة.

ثانيا: كون المعاهدة نفسها قد أوجدت فيما يتعلق بالجناية المعرفة فيها، إما نظاماً للاختصاص العالمي يقوم على مبدأ تسليم المتهم أو محاكمته وطنياً، أو إمكانية لأن تحاكمه محكمة جنائية دولية أوكلا الأمرين معاً.

2- إسناد الاختصاص بموجب معاهدات لا تنص إلا على قمع أوجه سلوك غير مرغوب فيه :

ويشمل المعاهدات التي لا تنص إلا على قمع أوجه سلوك غير مرغوب فيه، وتعتبر جناية بموجب القانون الوطني، وهذه الجرائم المتضمنة في هذه المعاهدات لا تدخل مباشرة ضمن اختصاص المحكمة، ولكي تصبح كذلك يتطلب الأمر من الدولة المضيفة قبولاً خاصاً عبر إبلاغ المحكمة بهذا القبول كتابة.

والدول التي يتطلب قبولها قبولاً خاصاً هي الدول التي حدثت تلك الجريمة أو الجرائم موضوع التحقيق في إقليمها، سواء بالفعل أو بالامتناع.

أما بالنسبة للجرائم التي تدخل ضمن هذا الإطار، فبالإضافة إلى الجرائم بموجب القانون الوطني كجريمة المخدرات التي تحمل نصوصاً في معاهدة متعددة الأطراف وكإتفاقية الأمم المتحدة 1988م والتي تشكل بالنظر إلى نصوص تلك الاتفاقية جنايات جسيمة بصورة استثنائية، هناك أيضا كل جناية دولية أخرى وفقاً لقاعدة من قواعد القانون الدولي يقبلها المجتمع الدولي ويسلم بأنها أساسية إلى درجة أن ارتكابها يرتب المسؤولية الجنائية للأفراد(1) .

3- تفنيد هذه الفكرة :

يمكن تفنيد هذا النهج القائم على إسناد أساس اختصاص المحكمة إلى المعاهدات الدولية من عدة نواح وذلك على النحو التالي:

1- بالنسبة للمعاهدات التي ستشكل أساساً للولاية القضائية للمحكمة، فإن هذه المعاهدات لم تتضمن أية إشارة إلى إعطاء الدول الأطراف الخيار في تقديم قضايا إلى المحكمة من هذا النوع إذا ما استثنينا اتفاقية إبادة الأجناس في مادتها السادسة والتي تتضمن إمكانية إحالة قضايا إلى محكمة دولية. أما باقي المعاهدات فهي تسند بشكل واضح معاقبة تلك الجنايات إلى الولاية الوطنية، وبالتالي فإن نهجاً مثل هذا النهج لم يراع هذه المسألة الأساسية.

2- يثار تساؤل حول ما إذا كانت هناك دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة إلا أنها ليست عضواً في كل المعاهدات التي ستشكل أساس ولاية المحكمة. فهل سيتم حسم المسألة بقبول الدولة الطرف في النظام الأساسي اختصاص المحكمة فقط بالنظر في المسائل المتعلقة بالمعاهدات التي هي طرف فيها كذلك؟ وهل يحق لمثل هذه الدول أن تتقدم بشكاوى متصلة بحالات ارتكاب الجرائم التي ستؤسسها معاهدات ليست هي أطرافاً فيها؟.

3- بالنسبة لاعتبار مشروع مدونة الجرائم المخلة بأمن وسلام الإنسانية، بجانب المعاهدات الدولية ضمن أسس ولاية المحكمة أمراً يكتنفه الكثير من الصعوبات والعراقيل، إذ علاوة على كون المدونة قد تتضمن جرائم تخضع لولاية المحكمة، فإن الكثير من تعاريف الجرائم الدولية الواردة في المدونة تتداخل مع تعاريف الجرائم التي تتناولها المعاهدات القائمة بالفعل...، حيث تحذف عناصر من جريمة معينة قائمة أو تضيق نطاقها، مما يشكل اضطراباً كبيرًا في سير عمل المحكمة، وسيضاعف الصعوبات التي قد تواجهها، ناهيك عن رفض الكثير من الدول اعتماد المدونة أساساً لولاية المحكمة(1) .

4- فيما يتعلق ببعض الجرائم التي تم استبعادها من مشروع المادة 22 المتضمنة قائمة بالمعاهدات الدولية التي تشكل أساساً لولاية المحكمة (الإطار الأول من اختصاصات المحكمة) والتي تم تضمينها ضمن (الإطار الثاني) من اختصاصات المحكمة والتي تتطلب قبولاً خاصاً من قبل الدول لكي تمارس المحكمة ولايتها إزاءها، كالتي وردت في المادة السادسة والعشرون مثل جريمة المخدرات مثلا التي ينطبق عليها نفس المعايير التي تم الاعتماد عليها في تقرير الفريق العامل بهدف إعطاء المحكمة الولاية إزاءها من دون قبول الدول قبولاً خاصاً، يمكن معادلتها بالاتفاقيات المشار إليها في المادة الثانية والعشرين وذلك من عدة نواح (2) .

1- باعتبار الجريمة جنائية بموجب القانون الدولي وذلك بالإستناد إلى اتفاقية1988م لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية.

2- النصوص الرامية إلى جعل الجريمة معاقباً عليها بموجب القانون الداخلي .

3- النصوص المتعلقة باختصاص دولة غير الدول التي ارتكبت فيها الجريمة بالنظر في تلك الجريمة.

4- النصوص التي تقضي بملاحقة ومحاكمة الجاني الموجود في إقليم الدولة التي رفضت محاكمة أو تسليم الجاني.

5- النصوص المتعلقة بمبدأ تسليم المجرمين وبالمساعدة القانونية المتبادلة.

ومع هذا فقد تم التعليق على ما سبق خاصة هذه النقطة الأخيرة بالذات بأنه لا يمكن إدراج مثل هذه الجرائم حتى وإن توفرت فيها الشروط الخمسة السابقة، وذلك فقط لكون تلك الجرائم ليست معرفة تعريفاً كافياً في الاتفاقية لتشكل أساسا قانونياً كافياً يتعين على هيئة القضاء تطبيقه مباشرة دون الرجوع للقانون الوطني هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الالتزام بمحاكمة وتسليم المتهمين كما في اتفاقية 1988م بشأن مكافحة المخدرات لا تسري إلا على الدول التي جعلت الجناية معاقبا عليها بموجب قوانينها الداخلية وليس على أساس تنفيذ أحكام المعاهدة.

ومن هنا وبالإضافة إلى كل الاعتبارات السابقة وبالنظر إلى عدم كفاية تعريف الجرائم في الاتفاقيات القائمة بما في ذلك عدم الإشارة إلى أوجه الدفاع وعوامل التبرئة والإدانة والعقوبات، ولأنه ينبغي تعريف عناصر الجرائم تعريفاً دقيقاً بحيث يسهل إثبات أن سلوك الشخص المتهم يشمل عناصر جريمة بعينها (1) فإن لجنة القانون الدولي قد لاحظت أنه يلزم فيما يتعلق ببعض المعاهدات تضييق نطاق الجرائم التي تدخل ضمن اختصاصات المحكمة..، وأن يحدد بجلاء في النظام الأساسي فقط الجرائم الأشد خطورة ومدى خطورتها وكونها ذات طابع دولي حقيقي، بما يبرر إدماجها ضمن اختصاص المحكمة.

لكن ظل التساؤل حول كيف سيتم تحديد تلك الجرائم الأشد خطورة ؟ وما هي المعايير التي ينبغي مراعاتها لتحديد أن جريمة ما ذات طابع دولي حقيقي وخطير إلى حد يسوغ إدراجها ضمن اختصاصات المحكمة؟

ترددت في الواقع ثلاثة معايير أساسية تمت مراعاتها عند وضع الصيغة النهائية للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وهذه المعايير هي : (2)

1- أن تلحق الجريمة المعنية الضرر لا بمصالح دولة أو دول معينة فحسب ، وإنما بمصير البشرية بأسرها أو المجتمع الدولي بأكمله.

2- أن تعتبر الأفعال المعنية جرائم بموجب مبادئ القانون الجنائي المعترف بها دولياً، وأن تقر هذه الطبيعة جميع الأطراف المعنية .

3- أن ينطوي مكافحة هذه الجرائم في أقل تقدير على التعاون بين الدول مما يفضي إلى محاكمة مرتكبها أمام محكمة جنائية دولية.

وانسجاماً مع روح النظام الأساسي وفلسفته العامة النابعة عن توجه المجتمع الدولي نحو تحديد نطاق عمل المحكمة بالجرائم الأشد خطورة ..، لم يعد ممكناً قبول معيار وجود معاهدة دولية تعرف الجريمة أو حتى كون المعاهدة قد أوجدت فيما يخص الجناية المعنية نظاماً للاختصاص العالمي بالمحاكمة. وعليه كان من الضروري التوصل إلى اتفاق حول ضرورة خلق نطاق معين من الاختصاص الدولي المشترك، على أساسه يتم إسناد الاختصاص في جرائم محددة بدقة إلى المحكمة الجنائية الدولية.

ثانياً : خلق نطاق معين من الاختصاص الدولي المشترك :

إن أي جناية بمقتضى القانون الدولي العام يقبلها المجتمع الدولي ككل، ويسلم بأنها أساسية إلى درجة أن انتهاكها يرتب المسؤولية الجنائية للأفراد، تعتبر جرائم جسيمة وأشد خطورة مما يوجب إدماجها ضمن اختصاصات المحكمة كما ذهب إلى ذلك الفريق العامل المعني بوضع مشروع النظام الأساسي لمحكمة جنائية دولية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك جريمة العدوان مثلاً الذي ليس معرفاً في معاهدة محددة، وكذلك جريمة الإبادة الجماعية في حالة الدول الغير الأطراف في اتفاقية قمع جريمة الإبادة، وكذلك الجنايات المرتكبة ضد الإنسانية والغير مشمولة باتفاقية جنيف 1949، وهي جرائم من الأهمية بحيث أنه من غير المعقول في هذه المرحلة الأساسية من تطوير القانون الدولي في اتجاه إنشاء محكمة جنائية دولية أن لا يتم إدخال هذه الجنايات ضمن اختصاص المحكمة(1) كونها جرائم خطيرة وذات طابع دولي حقيقي. لكن هل يكفي نعت جريمة بأنها ذات طابع دولي حقيقي وخطير لإدراجها ضمن اختصاصات المحكمة؟! إن جرائم متنوعة ومحددة في معاهدات دولية ومن بينها جريمة الإرهاب والتعذيب والمخدرات والفصل العنصري هي أيضاً جرائم خطيرة وذات أهمية دولية مما يستوجب إدماجها ضمن اختصاصات المحكمة ومع ذلك لم يتم إدماجها!، وهي مسألة لاحظتها العديد من تعليقات الدول.

أ-قصر اختصاص المحكمة في عدة جرائم يتوفر حولها إجماع دولي :

تمشياً مع الرأي السائد عند إعداد الصيغة النهائية للنظام الأساسي، والتوجه الدولي العام نحو قصر اختصاص المحكمة على جرائم بعينها، تم اختيارها باعتبارها الأشد خطورة لإرتباطها بمصير البشرية كلها ولكونها تحظى بإجماع عالمي وبأهمية بالغة كونها من الجسامة بحيث تصدم وجدان المجتمع الدولي وتزعزع أمنه واستقراره ، وتهدد نظامه القانوني.

معيار خطورة هذه الجرائم في الواقع لم يكن ممكناً أن يتضمنها النظام الأساسي للمحكمة، لكن كثيراً من الرؤى التي أبديت داخل اللجنة المختصة لإنشاء محكمة جنائية دولية، وكذا تعليقات عديد من الدول ركزت على ضرورة الاسترشاد فيما يتعلق بهذه النقطة بفقرات المواد 2-5 من النظام الأساسي للمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة وكذلك المواد 2-4 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا(1)، المهم وكما لاحظت (ببلاروس) في تعليقاتها " أن يتم إدراج أخطر الجرائم وأكثرها عنفاً باعتراف دولي إلى الحد الذي يكون من المستحيل أن ترفض أي دولة اختصاص المحكمة فيما يتعلق بهذه الجرائم، وأن تصبح مع ذلك طرفاً في النظام الأساسي"(2) ويبدو أن هذه الفكرة الأخيرة هي التي تحكمت في إقرار الصيغة النهائية المتعلقة بنقطة جوهرية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

وبناء على ما سبق وباستقراء الكثير من تعليقات الدول وللنقاشات التي دارت حول مواد النظام الأساسي المتعلقة بهذه المسألة، يمكن القول أن قصر اختصاص المحكمة على عدد قليل من الجرائم الدولية التي يتوفر إجماع دولي على خطورتها نقطة مهمة يترتب عليها عدة أمور إيجابية بالنسبة لمستقبل المحكمة من أهمها:

1- تيسير النظر في مسائل أخرى ذات أهمية كذلك في عملية إنشاء المحكمة .

2- تبني نهج موحد ومنسق إزاء مختلف متطلبات الاختصاص بما في ذلك متطلبات موافقة الدول والتزاماتها بالتعاون مع المحكمة وتقديم المساعدة القضائية .

3- حتى يتم تشجيع أكبر عدد ممكن من الدول على قبول المحكمة مما يعزز مصداقيتها وفعاليتها .

4- تجنب إثقال كاهل المحكمة بقضايا يمكن أن تتناولها المحاكم الوطنية على النحو المناسب وكذلك التخفيف من العبء المالي الملقى على المجتمع الدولي..

5- العمل على خلق نطاق معين من الاختصاص المشترك فيما يتعلق بجميع الدول الأطراف وتوسيع نطاق هذا الاختصاص تدريجيا مع الزمن(1) .

لكل هذه الاعتبارات جاء التشديد في النظام الأساسي للمحكمة منذ الديباجة على "ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ومستقلة وذات علاقة بمنظومة الأمم المتحدة وذات اختصاص على الجرائم الأشد خطورة والتي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره"(1) .

ولأهمية المسألة أعيد هذا التأكيد مرة ثانية في المادة الأولى من النظام الأساسي عندما نصت على"...ويكون لها السلطة لممارسة اختصاصاتها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي".

ب-العمل على توسيع نطاق اختصاص المحكمة مستقبلاً.

بما أن الهدف ليس فقط إنشاء المحكمة في حد ذاتها، وإنما التطوير التدريجي للممارسة القانونية، وسن القوانين على الصعيد الدولي، كان لابد من العمل على خلق نطاق معين من الاختصاص المشترك بين جميع الدول وتوسيع نطاقه تدريجياً. لذلك كان هناك حرص شديد على إيجاد آلية مناسبة لتمكين الدول الأطراف في النظام الأساسي من النظر في إضافة جرائم أخرى في مرحلة لاحقة وهي مسألة ما انفكت مختلف الرؤى تشدد على أهميتها(2) .

ولذا فقد تم تضمين النظام الأساسي للمحكمة الإشارة إلى تلك الآلية عندما نصت المادة 123 منه على أنه بعد انقضاء سبع سنوات على بدء نفاد هذا النظام، يعقد الأمين العام للأمم المتحدة مؤتمراً استعراضياً للدول الأطراف للنظر في أية تعديلات على محتويات هذا النظام، ويجوز أن يشمل الاستعراض قائمة الجرائم المدرجة ضمن اختصاصات المحكمة..

وهي الجرائم الدولية الأشد خطورة والتي أصبحت لا تستمد طابعها الإجرامي بموجب القانون الدولي فحسب وإنما تستمده كذلك من التنصيص على تلك الطبيعة في النظام الأساسي نفسه كونها تشكل نظاما مشتركا من الاختصاص فيما يتعلق بجميع الدول الأطراف، من هنا وحتى في حالة عدم وجود تعريف لأي من تلك الجرائم في صكوك دولية سابقة ينبغي أن يتضمن النظام الأساسي نفسه مثل هذا التعريف وأن يبت في هذه المسألة انطلاقا منه.

فما هي الجرائم الدولية الأشد خطورة والتي أدرجت ضمن اختصاص المحكمة الجنائية؟ وكيف تمت معالجة إشكالية عدم وجود تعاريف واضحة ومحددة لأي من هذه الجرائم؟ .

المطلب الثاني :

الجرائم الدولية المدرجة ضمن

اختصاصات المحكمة

انصرفت نية المجتمع الدولي بالإجماع في إطار المحكمة الجنائية الدولية إلى خلق نطاق معين من الإختصاص المشترك فيما يتعلق بجميع الدول الأعضاء، يشمل أربع جرائم أساسية اعتبرت أشد الجرائم الدولية خطورة، وأكثرها تهديداً لبنية وقيم النظام القانوني الدولي.

وهذه الجرائم الأربع كما حددتها المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة هي : (1)

1- جريمة الإبادة الجماعية .

2- الجرائم ضد الإنسانية .

3- جرائم الحرب .

4- جريمة العدوان .

ولأن المحكمة أنشئت خصيصاً كمحفل لمقاضاة تلك الجرائم، نعتقد أن من الأهمية بمكان الإلمام بمفهوم تلك الجرائم وتعديد عناصرها وفقاً لما بينته مواد النظام الأساسي، والاستفادة عند الاقتضاء بالتحديد الذي بينته أية اتفاقيات أو صكوك دولية سابقة تناولت هذه الجرائم، باعتبار أن النظام الأساسي نفسه كان مستنداً في تحديده لتلك الجرائم الدولية على كثير من المعاهدات الدولية الكاشفة عنها، وعلى التعاريف الواردة في تلك المعاهدات دون أن يكون ممكناً تضمينه لتلك المعاهدات وبالتالي صور وأركان الجرائم التي كشفت عنها(1) .

أولاً : الإبادة الجماعية : (2)

عرفت المادة السادسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جريمة الإبادة الجماعية أنها تعني لغرض هذا النظام. أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه إهلاكاً كلياً أو جزئياً :

1- قتل أفراد الجماعة .

2- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة .

3- إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا .

4- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة .

5- نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى .

وتنصرف عبارة " إهلاك جماعة... إهلاكاً كلياً أو جزئياً " كما تم توضيح ذلك أثناء مناقشة هذه الجريمة داخل اللجنة المعنية بإعداد نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية، إلى القصد المحدد لإهلاك ما هو أكثر من عدد صغير من الأفراد الأعضاء في جماعة ما .." كما أن الإشارة إلى الأذى العقلي تعني ما هو أكثر من التعطيل البسيط أو المؤقت للقدرات العقلية. (1) "

وبالرجوع إلى الأفعال التي حددتها المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة نلحظ أنها نفس الأفعال التي كانت حددتها المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الجنس التي وقع عليها في 9 ديسمبر 1948م، ودخلت حيز النفاذ 2 يناير 1951م .

وجوهر هذه الجريمة كما خلصت إلى ذلك الجمعية العامة في مشروع قرارها للاتفاقية السابقة والذي أصدرته سنة 1946 يتمثل في " إنكار حق البقاء لمجموعة بشرية بأجمعها" نظراً لما ينطوي عليه من خطر على الضمير العام وإصابة البشرية كلها بأضرار بالغة من كل النواحي التي تساهم بها هذه المجموعات فضلا عن منافاتها للأخلاق ولمقاصد الأمم المتحدة...

ولما كانت قد وجدت أمثلة كثيرة لجرائم إبادة الجنس... ، ولما كانت مسألة معاقبة جريمة إبادة الجنس مسألة ذات اختصاص دولي، لذلك تؤكد الجمعية العامة أنها جريمة في نظر القانون الدولي ويدينها العالم المتمدن ويعاقب مرتكبوها سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء، بصرف النظر عن صفاتهم حكاماً أو أفرادا عاديين، سواء قاموا بارتكابها على أسس تتعلق بالدين أو السياسة أو الجنس أو أي أساس آخر... ، وتدعو الجمعية العامة الدول الأعضاء إلى سن ما يلزم من قوانين لمنع وعقاب هذه الجريمة وتوصي بتنظيم التعاون الدولي لتسهيل التجريم العادل لهذه الجريمة والعقاب عليها (1) ".

وعليه فإضفاء صفة التجريم هنا نابعة من طبيعة المصلحة الجوهرية المعتدى عليها لذا فعند مناقشة مشروع النظام الأساسي طوال مراحل إعداده، انصرفت الآراء وكذا ردود الدول إلى ما يشبه الإجماع حول ضرورة إدماج هذه الجريمة ضمن أولويات اختصاص المحكمة المنشأة، بل ولأكثر من ذلك أن الحديث عن فكرة القضاء الدولي الجنائي المنظم وبداية الجهود الحقيقية في إطار منظمة الأمم المتحدة نحو إنشاء محكمة جنائية دولية ارتبط بمناسبة التوقيع على اتفاقية قمع ومعاقبة جريمة الإبادة.

فعلاوة على التعريف الواضح للجريمة في الاتفاقية المذكورة وتحديد عناصرها وصورها، فإن الاتفاقية نفسها قد تضمنت شروط الملاحقة الدولية ضد مرتكبي هذه الجريمة، بل شددت كذلك على أن مسألة الاختصاص الدولي بالمحاكمة عن هذه الجريمة يمثل الضمانة الأساسية للحيلولة دون إفلات مرتكبها من العقاب لذلك سارعت الجمعية العامة إزاء هذا التطور الإيجابي على إصدار توصية مهمة تضمنت ثلاث مسائل أساسية كانت بمثابة اللبنة الأولى لجهود الأمم المتحدة نحو إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كما أشرنا إلى ذلك، وهذه الأمور الثلاثة هي: (1)

1- الاعتراف بأنه في مجال تطور المجتمع الدولي سوف تزداد الحاجة إلى وجود قضاء دولي جنائي يختص بالنظر ببعض الجرائم التي تستمد صفتها الدولية من خلال القانون الدولي العام.

2- دعوة لجنة القانون الدولي لدراسة ما إذا كان ممكناً إنشاء هيئة قضائية دولية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جريمة إبادة الجنس أو الجرائم الأخرى التي تصبح من اختصاص هذه الهيئة وذلك بموجب الاتفاقيات الدولية المعقودة.

3- مطالبة لجنة القانون الدولي التي سوف تضطلع بهذا العمل أن تراعي مدى إمكانية إنشاء دائرة جنائية ضمن دوائر محكمة العدل الدولية.

والواقع أن اتفاقية 9 ديسمبر 1948 رغم أنها أتت خالية من الإشارة إلى العقاب، وهو الشق الثاني لمبدأ الشرعية، كما أنها أغفلت كذلك الإشارة إلى الجماعات الاجتماعية والسياسية، إلا أنها بالفعل شاملة في تعريف الجريمة وتحديد عناصرها والإفصاح عن طابعها الجرمي سواء ارتكبت في أوقات السلم أو الحرب، وبالتالي لم يعد ممكن تركها ضمن المجال المحفوظ للدول لأنها تنطوي على مس خطير بالسلم والأمن الدوليين، وعادة ما تمارس من قبل السلطات العامة أو بمعرفتها بحيث يغدو الاعتماد على المحاكم الداخلية عديم الجدوى.

وإزاء هذا التحديد الدقيق والمفصل للأفعال التي تكون جريمة إبادة للجنس في هذه الاتفاقية، والذي يعبر عن الرغبة الحقيقة في حماية المصالح الجوهرية للمجتمع الدولي، كان طبيعياً أن يرد تعريف النظام الأساسي للمحكمة لهذه الجريمة بنفس الطريقة التي عرفتها بها الاتفاقيــــة المذكـــــورة (1) .

وعليه كان من الطبيعي أن تجمع مختلف الرؤى عند اعتماد الصيغة النهائية للنظام الأساسي للمحكمة إلى أن هذه الجريمة تفي بمعايير الإدماج المبينة في ديباجة هذا النظام والمؤكد عليها في مادته الأولى " كونها من أشد الجرائم خطورة محل الاهتمام الدولي" وتشكل بالتالي أساساً لولاية المحكمة الجنائية وأنها كذلك معرفة تعريفاً يفي بمتطلبات مبدأ الشرعية " إذ أن التعريف الموثوق لهذه الجريمة موجود في اتفاقية 9 ديسمبر 1948 التي لاقت قبولاً واسع النطاق من جانب الدول بحيث اعتبرت مجسدة للقانون الدولي العرفي الذي تطبقه محكمة العدل الدولية(1) " وتم إدراجه كذلك في النظام الأساسي للمحكمة.

ومع أن المادة السادسة من النظام الأساسي والتي تصدت لتعريف هذه الجريمة لم تشر إلى الجماعات الثقافية والسياسية (2) في صدد تعدادها للأفعال التي تشكل جريمة الإبادة، إلا أن هذه المسألة تمت معالجتها في سياق الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.

ثانياً : الجرائم ضد الإنسانية:

عرفت المادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الجرائم ضد الإنسانية عبر تعداد الأفعال التي تشكل في حالة ارتكابها في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين عن علم بهذا الهجوم باعتبارها جرائم ضد الإنسانية وهذه الأفعال التي تشكل جرائم هي :

1- القتل العمد .

2- الإبادة التي تعني هنا تعمد فرض أحوال معيشية من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء بقصد إهلاك جزء من السكان.

3- الاسترقاق وتعني ممارسة أي من السلطات حق الملكية على شخص ما بما في ذلك ممارسة هذه السلطات في سبيل الاتجار بالأشخاص لا سيما النساء والأطفال.

4- إبعاد السكان أو النقل القسري لهم أي نقلهم قسراً من المنطقة التي يتواجدون فيها بصفة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري أخر من دون مبررات يسمح بها القانون الدولي.

5- السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي.

6- التعذيب أي تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة سواء بدنياً أو عقلياً بشخص موجود تحت إشراف المتهم أو سيطرته، على أن لا يشمل هذا المعنى أي ألم أو معاناة ينجمان فحسب عن عقوبات قانونية أو تكون جزء منها أو نتيجة لها.

7- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري بقصد التأثير على التكوين العرقي لأي مجموعة من السكان أو أي شكل أخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة.

8- اضطهاد أي جماعة محددة من السكان أو مجموع السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية، وذلك فيما يتعلق بأي فعل مشار إليه هنا، أو بأي جريمة تدخل ضمن اختصاصات المحكمة. ويعني الاضطهاد حرمان أي جماعة من السكان حرماناً متعمداً وشديداً من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي وذلك بسبب هوية هذه الجماعة أو مجموع السكان .

9- الاختفاء القسري للأشخاص ويعني إلقاء القبض على أي أشخاص واحتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية أو بإذن ودعم منها لهذا الفعل أو سكوتها عليه، ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة طويلة .

10- الفصل العنصري: أية أفعال لا إنسانية تماثل في طابعها الأفعال السابقة وترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية إزاء جماعة أو جماعات أخرى وترتكب بغية الإبقاء على ذلك النظام.

11- أي أفعال غير إنسانية أخرى ذات طابع مماثل تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.

بالنسبة لهذا النوع من الجرائم الدولية فقد انصرفت أراء كثيرة من أعضاء الفريق العامل المعني بوضع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى ضرورة إدماجها ضمن الولاية القضائية الجنائية الدولية للمحكمة، مع مراعاة أن يكون اختصاص المحكمة فيما يتعلق بهذه الجريمة مرهوناً بمزيد من الوصف للتأكد من إفساح المجال لتحقيق معيار الجسامة...، وبما أنه لا توجد اتفاقية تشمل تعريفاً قضائياً لهذا النوع من الجرائم معترف به بصفة عامة ودقيق بما فيه الكفاية، فقد اعتبر أن التعريفات الواردة في لائحة نورمبرج المادة السادسة والمادة الخامسة من النظام الأساًسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة والمادة الثالثة من محكمة رواندا توفر توجيها مناسباً عند وضع مثل هذا التعريف الدقيق، وبالاستفادة كذلك من ردود وتعليقات الدول الواردة حول هذه النقطة (1) .

والواقع أن مثل هذه الأفعال التي تنطوي على عدوان صارخ على إنسان أو مجموعات إنسانية، قد اعتبرت في ظل الاتجاهات الحديثة في القانون الدولي العام جرائم دولية بالنظر إلى المكانة التي أصبح الفرد يحتلها في النظام القانوني الدولي الحديث، وللخطورة التي تشكلها هذه الجريمة على بنيان وقيم النظام القانوني الدولي.

وعلى الرغم من حداثة مفهوم الجرائم ضد الإنسانية(2) في القانون الدولي العام" فإن تأتيم الأفعال المكونة لهذه الجرائم وسيلة فعالة لتوفير الحماية الجنائية لحقوق الإنسان وقت السلم والحرب، بل ويمثل أحد الضمانات الأساسية للحد من طغيان الحكام الذين يتنكرون للقيم الإنسانية العليا ويهددون حقوق بعض الفئات أو الجماعات الإنسانية لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية. (1) "

وفوق ذلك فقد تضمنتها العديد من الاتفاقيات الدولية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى خصوصاً المتعلقة بحماية الأقليات، وكذلك المعاهدات الدولية التي شكلت بداية للمسألة الجنائية وتقرير المسؤولية الجنائية الشخصية ...، كما تضمنها المبدأ السادس من مبادئ محاكمات نور مبرج والمتعلق بتعيين وتحديد الجرائم الدولية عندما صنف أن الجرائم ضد الإنسانية جرائم دولية خطيرة.

لكن ومع ذلك فإن مختلف التأكيدات والاتفاقيات الدولية تلك، وما نتج عنها كانت تنظر إلى هذه الجرائم بارتباطها بجرائم الحرب، ومن هنا لم تستطع محكمة نورمبرج مثلاً أن تدين الألمان عن ارتكاب مثل تلك الجرائم التي ارتكبت منذ سنة 1939، لأنه كما ذهبت المحكمة إلى ذلك " يتعذر عليها أن تعلن أن تلك الأفعال كانت تمثل جرائم ضد الإنسانية بالمعنى الذي حدده ميثاق نورمبرج، أما بالنسبة للأفعال المرتكبة بعد هذا التاريخ فقد أكدت المحكمة وجود علاقة بينها كجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة ومن ثم أصدرت حكمها بالإدانة على هذا الأساس".

فهذه الجرائم اللاإنسانية التي وجهها الإدعاء- كما جاء في حكم المحكمة-، تم ارتكابها بعد نشوب الحرب لكنها ليست جرائم حرب بالمعنى المعروف، إلا أنها ارتكبت بسبب ارتباطها ولعلاقتها بها يمكن اعتبارها جرائم ضد الإنسانية.

التساؤل المتعلق بارتباط ارتكاب هذه الأفعال المكونة للجرائم ضد الإنسانية بمناسبة ارتكاب جريمة أخرى وهي جريمة الحرب نوقش كذلك داخل اللجنة المكلفة بإعداد مشروع النظام الأساسي للمحكمة، فذهبت كثير من الآراء إلى أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية برواندا والقرار الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدوليـــة بيوغسلافيا من قضيــــة (دتاديتسTadec ) وكذلك التطورات التي حدثت منذ سابقة نورمبرج ترجح استبعاد أي شرط يتعلق بالنزاع المسلح،(1) على أنه تم الإعراب كذلك على أن الجرائم المذكورة كانت ترتكب عادة أثناء نزاعات مسلحة ولم ترتكب وقت السلم إلا بصفة استثنائية(2). ومع ذلك فهذه الجريمة تعد جريمة دولية مستقلة عن جرائم الحرب وذلك لإمكان وقوعها في غير زمان ومكان القتال وإن تيسر ارتكابها في أثنائه، نظرا لما تنطوي عليه من إنكار لحقوق الإنسان الأساسية(1) ، وإضراراً خطيراً بمصلحة جوهرية للنظام الدولي.

وعليه فقد حرص واضعوا النظام الأساسي عند إعداد صيغته النهاية " كما ذهبت كذلك أيضا مختلف تعليقات وردود الدول حول المشروع المقدم (2) ". إلى ضرورة تعيين وتحديد الأفعال المكونة لهذه الجريمة بوضع تعريفات دقيقة ومركزة لها بحيث يمكن تجنب الخلط مثلاً بين فعل الإبادة كجريمة من الجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية ( ( Génocideوكذلك القتل العمد الذي يمكن تصنيفه ضمن جريمة إبادة الجنس إذا ارتكب ضد أي مجموعة كما أشارت إلى ذلك المادة السادسة من النظام، وفي نفس الوقت يمكن أن تشكل كذلك إحدى الجرائم ضد الإنسانية إذا ارتكبت في مناسبات أخرى وما إلى ذلك من الأفعال التي حرص على وضع تعريفات ومعاني محددة لها في المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة.

كما تم التشديد في ذات النظام على أن هذه الجريمة تتحقق في إطار هجوم واسع النطاق موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين " متى كان ذلك نهجاً سلوكياً يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال التي تشكل هذه الجريمة ضد أية مجموعة من السكان المدنيين عملا بسياسة دولة أو منظمة تقضى بارتكاب هذا الهجوم، أو تعزيزا لهذه السياسة" حسب الفقرة الثانية من المادة السابعة(1) .

وبناء على ما سبق ولأنه قد ثم تحديد وتعيين وتعريف مختلف الأفعال التي تشكل الجرائم ضد الإنسانية والتي يشكل اقترافها إنكاراً صارخاً لحقوق الإنسان الأساسية، واعتداءاً جسيماً على مصلحة جوهرية من مصالح النظام القانوني الدولي، فقد اعتبرت الجرائم ضد الإنسانية جريمة تنطبق عليها المعايير المحددة في الفقرة التاسعة من ديباجة النظام الأساسي وكذلك المادة الأولى من هذا النظام بوصفها من أشد الجرائم الدولية خطورة وأفظع الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره، وذلك وفقاً للتحديد والتعيين الذي جاءت به المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ثالثاً : جرائم الحرب :

تعني جرائم الحرب لغرض هذا النظام الأساسي كما حددت ذلك المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ما يلي :

أ - الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أغسطس 1949م بمعنى أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقيات جنيف ذات الصلة وهذه الأفعال هي:

1- القتل العمد .

2- التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية بما في ذلك إجراء تجارب بيولوجية.

3- تعمد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة.

4- إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والإستيلاء عليها دون ضرورة عسكرية وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة.

5- إرغام أي أسير حرب أو شخص مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية .

6- تعمد حرمان أي أسير أو أي شخص مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة ونزيهة.

7- الإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع.

8- أخذ الرهائن.

ب- الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي لأي فعل من الأفعال التالية :

1- تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية .

2- تعمد توجيه هجمات ضد مواقع مدنية ( المواقع التي لاتشكل أهداف عسكرية).

3- تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام عملاً بميثاق الأمم المتحدة ما دامو يستحقون الحماية.

4- تعمد شن هجوم مع العلم بأنه سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية أو إحداث ضرر واسع النطاق وطويل وشديد للبيئة الطبيعية بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية.

5- مهاجمة أو قصف المدن والمساكن العزلاء التي لا تكون أهدافاً عسكرية بأي وسيلة كانت.

6- قتل أو جرح مقاتل استسلم مختاراً لكونه قد ألقى السلاح ولم يعد له وسيلة للدفاع.

7- إساءة استعمال علم الهدنة أو علم العدو أو شارته وزيه العسكري أو علم وزي الأمم المتحدة أو الشارات المميزة لاتفاقيات جنيف، مما يسفر عن موت الأفراد أو إلحاق أي ضرر بهم.

8- قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها.(1)

9- تعمد مهاجمة المباني المعدة للأغراض الدينية والتعليمية أو الآثار التاريخية أو المستشفيات أو أماكن تجمع المرضى والجرحى. 10- إخضاع الأشخاص الموجودين تحت سلطة طرف معادي للتشويه البدني أو لأي نوع من التجارب الطبية أو العلمية التي لا تبررها الحالة الطبية للشخص، أو أي معالجة لا تجرى لصالحه وتتسبب في وفاته أو تعرض صحته للخطر.

11- قتل أفراد منتمين إلى دولة معادية أو إصابتهم غدراً.

12- إعلان أنه لن يبق أحد على قيد الحياة.

13- تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن هذا التدمير أو الاستيلاء مما تحتمه الضرورة العسكرية.

14- إعلان أن حقوق ودعاوى رعايا الطرف المعادي ملغاة أو معلقة أو لن تكون مقبولة في أية محكمة.

15- إجبار رعايا الطرف المعادي على الاشتراك في عمليات حربية موجهة ضد بلدهم وإن كانوا قبل نشوب الحرب في خدمة الدولة المحاربة.

16- نهب أي بلد أو مكان حتى وإن تم الاستيلاء عليه عنوة.

17- استخدام السموم والأسلحة المسممة.

18- استخدام الغازات الخانقة أو السامة أو غيرها من الغازات وجميع ما في حكمها من السوائل أو المواد أو الأجهزة .

19- استخدام الرصاصات التي تتمدد أو تتسع بسهولة داخل الجسم البشري ..

20- استخدام أسلحة أو قذائف أو مواد أو أساليب حربية تسبب بطبيعتها أضراراً زائدة أو آلاماً لا لزوم لها، أو تكون عشوائية بالمخالفة للقانون الدولي للمنازعات المسلحة بشرط أن تكون موضع حظر شامل(1) ، وأن تدرج في مرفق هذا النظام عن طريق تعديل يتفق والأحكام ذات الصلة.

21- الاعتداء على الكرامة الشخصية وخاصة المعاملة المهينة والحاطة للكرامة .

22- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء والحمل القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي يشكل أيضاً انتهاكا ًلاتفاقيات جنيف.

23- استغلال وجود شخص مدني أو أشخاص آخرين متمتعين بحماية لإضفاء الحصانة من العمليات العسكرية على نقاط أو مناطق أو قوات عسكرية معينة.

24- تعمد توجيه هجمات ضد المباني والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد من مستعملي المميزات المبينة في اتفاقيات جنيف.

25- تعمد تجويع المدنيين بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم بما في ذلك عرقلة مواد الإغاثة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف.

26- تجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر إلزامياً أو طوعياً في القوات المسلحة الوطنية أو استخدامهم للمشاركة فعليا في الأعمال الحربية.

ج-في حالة وقوع نزاع مسلح غير ذي طابع دولي(1)، والانتهاكات الجسيمة للمادة 3 المشتركة بين اتفاقية جنيف الأربعة، وهي أي من الأفعال التالية المرتكبة ضد أشخاص غير مشتركين اشتراكاً فعلياً في الأعمال الحربية بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا أسلحتهم...

1- استعمال العنف ضد الحياة والأشخاص خاصة القتل والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب .

2- الاعتداء على كرامة الشخص .

3- أخذ الرهائن.

4- إصدار أحكام وتنفيذ إعدامات دون وجود حكم سابق صادر عن محكمة مشكلة تشكيلاً نظامياً تكفل جميع الضمانات القضائية المعترف عموما أنه لا غنى عنها .

د-بالنسبة للاعتداء على كرامة الشخص والمعاملة القاسية والحاطة بالكرامة لا تطبق في حالة الاضطرابات والتوترات الداخلية مثل أعمال الشغب وأعمال العنف المنفردة أو المنظمة وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة.

هـ- الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي وتشمل كلاً من الأفعال التالية :

1- تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين أو أفرادا لا يشاركون مباشرة في الأعمال العسكرية .

2- تعمد توجيه هجمات ضد المباني والوحدات والأفراد من مستعملي الشعارات المميزة وفقاً لاتفاقية جنيف .

3- تعمد شن هجمات ضد موظفي أو منشآت أو وحدات ..مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام ماداموا يستحقون الحماية التي توفر للمدنيين أو للمواقع المدنية بموجب قانون المنازعات المسلحة.

4- تعمد شن هجمات ضد المباني الدينية أو العلمية أو التاريخية والأماكن التطبيبية، شريطة إن لا تكون أهدافاً عسكرية .

5- نهب أي بلد أو مكان حتى وإن تم الاستيلاء عليها عنوة .

6- الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء والحمل القسري كما وضحته المادة السابعة من هذا النظام الأساسي.

7- تجنيد الأطفال دون سن الخامسة عشرة إلزامياً أو طوعياً أو استخدامهم للمشاركة في الأعمال العسكرية.

8- إصدار أوامر بتشريد السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع .

9- قتل أحد المقاتلين من أفراد العدو أو إصابته غدراً.

10- إعلان أنه لن يبق أحد على قيد الحياة .

11- إخضاع الأشخاص الموجودين تحت سلطة طرف آخر في النزاع للتشويه البدني أو لأي نوع من التجارب التي لا تبررها المعالجة الطبية والتي لا تجري لصالحهم .

12- تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن ذلك لضرورة عسكرية .

و- بالنسبة لتعمد توجيه هجمات ضد المباني والوحدات الطبية ووسائل نقل الأفراد من مستعملي الإشارات المميزة في اتفاقية جنيف في حالة المنازعات غير ذات الطابع الدولي، لا يمكن تطبيقها على حالة الاضطرابات والتوترات الداخلية مثل أعمال الشغب وأعمال العنف المنفردة وما يماثلها، بينما تنطبق على المنازعات ََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََََ التي تقع في إقليم دولة عندما يوجد صراع مسلح متطاول الأجل بين السلطات الحكومية وجماعات مسلحة أو فيما بين هذه الجماعات .

ونشير هنا إلى أن مختلف الأفعال التي عددتها المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة تستند في تجريمها إلى كتلة كبيرة من الاتفاقيات والمعاهدات والجهود الدولية في سبيل الحد من الحرب والتخفيف من مآسيها، بدايةً باتفاقية جنيف 1868م مروراً بقواعد مؤتمري لاهاي1896 ، 1907م المتعلقة بقوانين وعادات الحرب إلى اتفاقيات جنيف الأربع 1949م بخصوص الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني(1) وغيرها من المبادئ والأحكام التي حازت مركز القانون الدولي العرفي، خاصة المبادئ المستخلصة من محاكمات نورمبرج(2) .

ومراعاة لطبيعة النزاعات التي عرفها العالم في مطلع التسعينيات والتي اتسمت بالطابع الإقليمي، وكذلك النزاعات القومية التي شكلت بالفعل تهديدًا خطيراً للسلم والأمن الدوليين وللقيم الإنسانية والحضارية، كان لابد من التركيز على المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع 1949م وبرتوكولها الإضافي الثاني كذلك، وذلك أسوة بالنظام الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية برواندا وأيضاً القرار الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة والتي اعترفت فيه بأن المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع قد حازت المركز القانوني العرفي(3) . هذه النقطة الأخيرة كانت موضع نقاش كبير بين أعضاء اللجنة المخصصة لإنشاء محكمة جنائية دولية حيث أثيرت تساؤلات عن مدى انسجام ذلك مع كون المحكمة مكملة للإجراءات القضائية الوطنية، ثم كيف يمكن التصرف إزاء الأطراف الأخرى غير الدول والتي قد تكون ذات تأثير كبير على الأحداث الجارية في المنازعات المسلحة الداخلية خاصة أن البرتوكول الثاني لاتفاقية جنيف لم يحز مركز القانون الدولي العرفي ولا يلزم إلا الدول الأطراف فيه .

وبالإضافة إلى ذلك فقد اعتبرت بعض الوفود أيضاً أن الإشارة إلى الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف التي تسري على المنازعات المسلحة ليست دقيقة بما يكفي لأغراض مبدأ الشرعية، كما أن مفهوم الجسامة نفسه بحاجة إلى توضيح وإرفاقه بمعايير تبين الانتهاكات التي هي أكبر أو أقل خطراً أو اتساعا ًأو نطاقاً ، والتأكد من إدراج الانتهاكات الأكبر خطورة ضمن اختصاصات المحكمة... (1)

من هنا أعيد التأكيد على أن المحكمة بالفعل مكملة للإجراءات الوطنية، وأن تضمين المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع وكذلك البرتوكول الإضافي لها لا يتنافى مع ذلك.

أما بخصوص مسؤولية الأطراف من غير الدولة إزاء هذه النزاعات المسلحة غير الدولية، فقد حسم فيها مند 1955 عندما أكدت لجنة الخبراء "أن احترام المبادئ الإنسانية ليس قاصراً على الحكومات وحدها فقط بل يتعداها ليشمل جميع الأشخاص المشتركين في الاضطرابات الداخلية". (2)

ومراعاة لكل الاعتبارات السابقة فقد تم الاهتداء عند إعداد الصيغة النهائية للنظام الأساسي بمختلف التعاريف الواردة في المعاهدات السابقة المتناولة لهذه الانتهاكات المؤثمة، كما تم الاستئناس بالأحكام ذات الصلة في محاكمات نورمبرج والنظام الأساسي لمحكمة رواندا والنظام الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا، بحيث تضمنت المادة الثامنة من نظام روما الأساسي للمحكمة وضع تعاريف واضحة ومفصلة لكل العناصر الأساسية لمختلف الانتهاكات المكونة لهذه الجريمة تحقيقاً لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وحتى تستوفي معايير الإدماج الضرورية المتضمنة في النظام الأساسي باعتبارها كذلك من أشد الجرائم خطورة، بحيث يكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلق بهذه الجريمة، لاسيما عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم حسب الفقرة الأولى من المادة الثامنة .

بل إن المحكمة كما لوحظ أثناء مناقشة هذه المسألة عند إعداد مشروع النظام الأساسي انبثقت بالأساس كمحفل لمقاضاة جرائم الحرب والإبادة والتي تبقى لولا إنشاء المحكمة بدون عقاب .

رابعاً : جريمة العدوان : (1)

بدأت المحاولات الحقيقية لتعريف العدوان عقب إنشاء منظمة الأمم المتحدة وفي إطارها، وما عدا ذلك فقد ظلت هذه الجريمة مفهوماً سياسياً تفسره الدول حسب رغبتها، واستمرت الصراعات الإيديولوجية أثناء الحرب الباردة عائقا دون التوصل إلى تعريف محدد ودقيق للعدوان.. بالرغم من التوصل إلى تعريف إرشادي للعدوان بموجب توصية الجمعية العامة بتاريخ (1) 4 سبتمبر 1974 ، حصره في استخدام القوة المسلحة من قبل دولة ضد سيادة دولة أخرى أو سلامتها الإقليمية أو بأي شكل يتنافى مع ميثاق الأمـــــم المتحدة (1) .

ورغم أن المادة الثالثة من توصية الجمعية العامة قد حددت مجموعة من الأفعال التي تكون شروط الفعل العدواني، فقد ظل المفهوم عموما غير دقيق ولا واضح، وظل دور مجلس الأمن الدولي تحكميا هنا إذ بيده السلطة الكاملة والمخولة له بموجب الفصل السابع من الميثاق " بتقدير أي حالة لتهديد السلم أو أي إخلال به أو أي عمل من أعمال العدوان".

ولحساسية هذه المسألة فقد كانت من البداية نقطة خلاف كبير داخل اللجنة المخصصة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وفي ردود وتعليقات الدول لإتصالها من ناحية بعمل مجلس الأمن الذي يعتبر الأداة الأكثر فعالية لتحقيق مصالح الدول الكبرى وتنفيذ سياستها وتحقيق التوازن فيما بينها، ولكونها من ناحية ثانية تمثل الشكل الأشد عنفاً في العلاقات الدولية، من هنا ظلت هذه المسألة دون حسم حتى بعد التوقيع على النظام الأساسي للمحكمة .

لقد عارضت عدة دول إدراج العدوان ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية هذه المرة، لا لكونها ليست مستوفية لمعايير الإدماج الواردة في ديباجة النظام الأساسي وفي مادته الأولى، وإنما بدرجة أساسية بسبب أولاً: غياب تعريف واضح ومحدد وثانياً: صعوبة التوفيق بين مسؤولية مجلس الأمن في صون السلم والأمن وتحديد العدوان من جهة، والمسؤولية التي سوف تؤول إلى المحكمة لتقرير المسؤولية الجنائية الفردية عن نفس العمل، من جهة ثانية، وكذا لأنه لا ينبغي التضحية من أجل أهداف سياسية بالهدف النهائي المتمثل في إنشاء جهاز قضائي لتطبيق العدالة بسبب هذه المسألة، والتي سيؤدي النقاش حولها بالضرورة إلى تأخير لا مبرر له في الانتهاء من وضع النظام الأساسي للمحكمة في صيغته النهائية. (1)

وبالمقابل فقد أيد البعض إدراج جريمة العدوان ضمن اختصاصات المحكمة رغم الصعوبات التي تكتنف مسألة تعريف هذه الجريمة، وذلك لاستيفائه المعايير الواردة في ديباجة النظام الأساسي وفي مادته الأولى، بالاستناد إلى المادة السادسة من ميثاق نورمبرج والمادة الأولى من توصية الجمعية العامة 3314 سنة 1974 والتعريف المقترح من قبل لجنة الخبراء 1955. وفوق ذلك ليس بوسع الأمم المتحدة الذي يكرس ميثاقها مبدأ عدم استخدام القوة، والتي أنشئت بالأساس لإنقاذ الأجيال من ويلات الحروب بعد 50 عاماً من إنشائها وقيام أول محاكمات جنائية دولية أن تستبعد العدوان من اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية دون أن تكون بذلك قد خطت خطوات إلى الوراء، وتجاهلت الموقف المخالف لذلك الذي اتخذته لجنة القانون الدولي في سياق أعمالها المتعلقة بمشروع مدونة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية .

وفي الواقع فإن أغلب النقاشات وتعليقات الدول فيما يتعلق بجريمة العدوان دارت حول كيفية التوفيق بين مسؤولية مجلس الأمن في صون السلم والأمن وتحديد جريمة العدوان من جهة، ومسؤولية المحكمة في تقرير المسؤولية الجنائية الفردية عن نفس الجريمة. (1)

ومن هنا كان لابد من السعي إلى إيجاد حل وسط يوازن بين استقلالية المحكمة، وضرورة احترام الدور الرئيسي لمجلس الأمن في الحفاظ على السلم والأمن، بحيث يمكن للمحكمة أن تنظر في أي شكوى عن التعرض لعدوان معين إذا لم يكن مجلس الأمن الدولي قد اتخذ قرارا بشأن المسألة، كما أن سلطة مجلس الأمن في اعتبار تصرف معين عدوانا لا يؤدي إلى حرمان المحكمة من دورها في تحديد مسؤولية الأفراد الجنائية فيما يتعلق بنفس الموضوع، ولعل هذا مثل الحل الأمثل حينئذ لكن ظلت مسألة تحديد جريمة العدوان دون حسم شامل فرغم إقرار النظام الأساسي للمحكمة باختصاص هذه الأخيرة بالمتابعة عن جريمة العدوان لاستيفاء الجريمة الشروط الضرورية لإدماجها ضمن الولاية القضائية للمحكمة، إلا أن مختلف التساؤلات ظلت عالقة وبدأ تحديد الأعمال المكونة لجريمة العدوان دون تعيين حقيقي، وبدا أن ممارسة المحكمة على هذه الجريمة لاختصاصاتها حتى وإن دخل النظام الأساسي حيز النفاد، مؤجلة إلى حين .

وعليه وبالرغم من الإجماع على أن جريمة العدوان تمثل الشكل الأشد خطورة على السلم والأمن الدوليين بحيث تستوفي معايير إدماجها ضمن الولاية القضائية للمحكمة، وتم تضمينها فعلاً في نظامها الأساسي إلا أن المحكمة لن تمارس ولايتها على هذه الجريمة إلا متى ما تم اعتماد حكم بهذا الشأن، وذلك عقب استعراض هذا النظام الأساسي، أو إدخال أي تعديلات عليه بموجب المادتين 121 و123 ، بحيث يتم وضع تعريف دقيق لهذه الجريمة وكذلك الشروط التي على أساسها ستمارس المحكمة ولايتها إزاء جريمة العدوان (1) .

هذه هي الجرائم الدولية الأربع التي أمكن إدماجها ضمن الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية باعتبارها جرائم من الخطورة بحيث تثير قلق المجتمع الدولي بأسره، وتنطبق عليها بالتالي معايير الإدماج المبينة في ديباجة النظام الأساسي وفي مادته الأولى، وفصلتها بدقة المواد السادسة والسابعة والثامنة من هذا النظام.

وإذا كانت المادة التاسعة من النظام الأساسي قد أحالت على جمعية الدول الأطراف مسألة اعتماد أركان هذه الجرائم، فإنه يمكن الإشارة إلى أن أي جريمة دولية لابد من أن يتوفر فيها ثلاثة أركان أساسية وهي : (1)

1- الركن المادي : المتمثل في سلوك مادي ملموس -سواء كان إيجابياً أو سلبياً- يفضي إلى نهاية يؤثمها القانون.

ويتحقق الركن المادي في حالة جريمة الإبادة عند ارتكاب أي عمل يفضي إلى إحداث عملية الإبادة بصفة كلية أو جزئية، على النحو الذي فصلته المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كما يتحقق في حالة جرائم الحرب عند البدء في مباشرة الحرب سواء صدر إعلان رسمي بذلك أو لم يصدر مع ضرورة أن يصاحبها اقتراف للمخالفات الجسيمة التي بينتها المادة الثامنة من النظام الأساسي.

أما في حالة الجرائم ضد الإنسانية فإن الركن المادي يتخذ شكلين اثنين من الممارسة الإجرامية، وهما الفعل المادي اللاإنساني المتمثل في عدوان يصيب أحد المصالح الجوهرية للإنسانية كالقتل والتعذيب وغيرها من الممارسات التي تتنكر لأهم الحقوق الأساسية للإنسانية، وكذا الفعل المتمثل في اضطهاد مجموعة محدودة من السكان لأسباب سياسية أو دينية أوقومية، وفي كلتا الحالتين فإن جسامة الفعل تعد شرطاً جوهرياً لقيام الركن المادي هنا.

2- الركن المعنوي: أوضحت المادة الثلاثون من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مدلول الركن المعنوي لهذه الجرائم عندما نصت على أنه لا يسأل الشخص جنائياً عن ارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، ولا يكون عرضه للمقاضاة إلا إذا تحققت الأركان المادية مع توافر القصد والعلم، واعتبرت أن توافر القصد لدى أي شخص يكون عندما:

- يقصد هذا الشخص فيما يتعلق بسلوكه ارتكاب هذا السلوك.

- يقصد هذا الشخص فيما يتعلق بالنتيجة التسبب في تلك النتيجة أو يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للأحداث .

أما لفظة العلم فتعني أن يكون الشخص مدركاً أنه توجد ظروف أو ستحدث نتائج في المسار العادي للأحداث. وتفسر لفظتا يعلم أو عن علم تبعاً لذلك.

ويتحقق الركن المعنوي بالنسبة لجريمة الإبادة الجماعية بقصد الجاني وإرادته قتل أفراد الجماعة أو إلحاق أذى بدني أو عقلي جسيم بها بهدف إحداث عملية الإبادة الكلية أو الجزئية لجماعة محددة، وهذا القصد الخاص أساسي في هذه الجريمة بغض النظر عن صفة ومركز الجاني، مع ملاحظة أنه في جريمة الإبادة فإن النية الجرمية والعمد متوفر في كل صور ارتكابها إذ لا توجد أي إمكانية لحدوث خطأ وهو ما يوضح بشاعتها. (1)

أما في جرائم الحرب فيتوفر الركن المعنوي بالاتجاه غير المشروع للإدراك والإرادة الحرة إلى ارتكاب المخالفات والممارسات التي يعد إتيانها بعلم الجاني جرائم دولية لا تقتضيها ولا تتطلبها الضرورة العسكرية، وأخيراً يتحقق الركن المعنوي في الجرائم ضد الإنسانية بتوفر القصد الجنائي الذي يقوم على علم الجاني وانصراف إرادته الحرة إلى أن فعله الإجرامي ينطوي على إهدار صارخ ولا إنساني للحقوق الأساسية والجوهرية لجماعة دينية أو عرقية أو سياسية بهدف الحرمان أو القضاء على هذه الجماعة.

3- الركن الدولي: يتطلب الركن الدولي أن يكون الفعل المرتكب صادراً بناء على طلب الدولة أو رضاها أو تشجيعها ومنطوياً على مساس بالمجتمع الدولي. (2)

ولخطورة الجرائم الدولية المتضمنة في النظام الأساسي للمحكمة فإن الركن الدولي يتوفر فيها حتى ولو مورست صورها من قبل أي دولة إزاء رعاياها كما في حالة جريمة الإبادة أو الجرائم ضد الإنسانية أو حتى جرائم الحرب عندما يتعلق الأمر بالمنازعات الداخلية، ومرد ذلك في الواقع نابع من الطبيعة الجوهرية للمصلحة المعتدى عليها والمتمثلة بحماية حياة وأرواح البشر أولاً، والمتصلة كذلك بقضية الإنسانية الأولي وهي قضية السلم والأمن الدوليين ثانياً.

ومن هنا كان من الطبيعي جداً أن يعتبر إتيان أي من هذه الجرائم بمثابة عدوان على قيم ومبادئ النظام القانوني الدولي وتهديد لأركانه الأساسية، لاعتبارها باعتراف كل الدول أنها مستوفية لمعايير الإدماج ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، والعمل في نفس الوقت على خلق نطاق معين من الاختصاص الدولي المشترك وتوسيع نطاقه تدريجياً بما يكفل تطوير النظام القانوني الدولي وصون قيمه السامية، خاصة الحقوق الأساسية للإنسان، وكفالة استمرار الحياة الدولية وثبات مظاهر العلاقات الودية بين الدول، وذلك وفقاً للمحددات الأساسية لعمل المحكمة كما تضمنها نظامها الأساسي ، وبالمراعاة للتوازنات التي تقتضيها طبيعة العلاقات الدولية. فماهي محددات دور المحكمة الجنائية الدولية؟ وما مدى مساهمتها في تعزيز وتطوير النظام القانوني الدولي؟.

دون أن ننسى التأكيد على أن عملية إنشاء المحكمة يُعد في حد ذاته نجاحاً يوازي النضج الذي وصلت إليه البشرية ، وتقدم الوعي بأهميتها الحالية والمستقبلية وانعكاساً لما بلغته القيم العليا في المجتمع الدولي من تنظيم . ولأن الهدف الحقيقي من هذه الدراسة لا ينحصر فقط في محاولة الإجابة عن التساؤل حول إمكانية قيام عدالة جنائية دولية ، بل يمتد إلى النظر للمحكمة بوصفها حتمية إنسانية وضرورة عملية لتجاوز حالات القصور التي أبانت عنها تجربة المحاكم الدولية الخاصة ، ومحاولة لسد ثغرة كبيرة في النظام القانوني الدولي من أهم أسبابها خلو ذلك النظام من محكمة جنائية دولية ، والعمل بالتالي من أجل أن تكون المحكمة الجنائية محكمة فعلية ذات كفاءة واستقلال ، وفاعلة من حيث قدرتها على المبادرة والتصرف بهدف تفعيل وتعزيز القانون الدولي ؛ لذلك فإننا سنحاول الإجابة عن التساؤلات المتصلة بمدى مساهمة المحكمة في تعزيز وتطوير النظام القانوني الدولي ؟ وماهية المعيقات التي قد تعرقل عمل المحكمة ، والشروط الضرورية لتفعيل دور المحكمة ، وذلك في جزء آخر من هذه الدراسة ، بمشيئة الله تعالى .



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-